الملحمة
كانت المرة الأولى التى أشاهد فيها حلقة واحدة لأحد المسلسلات الدرامية على فترات متقاربة خلال يوم واحد، وفى كل مرة كنت أشاهد وكأنى لم أرها من قبل، وكان صغارى وزوجتى يترقبون معى فى كل مرة إعادة، بنفس المشاعر الشجية والبكاء.
الملحمة التاريخية "الاختيار" وتحديدا الحلقة 28، صنعت حالة من الشجن داخل كل بيت فى مصر، وكل بيت عربي أدرك جيدا أن هناك صدورا جريئة تلقت "مقبلة"رصاصات ومفخخات شياطين الإنس، ولم تنفذ إليها وهى تفر "مدبرة"، أن تلك الأيدي الواثقة المؤمنة، والأنفس التى تتوق للشهادة بعد آخر قطرة دم فى الجسد، فعلت ذلك من أجلى ومن أجلك ومن أجل أبنائي وأبنائك، من أجل زوجتى وابنتى ومن أجل زوجتك وابنتك.
اقرأ أيضا: كورونا للكفار!
بينما نحن منهمكون كل منا فى عمله، أو على المقهى، أو فى أحد المولات، كانت هناك صدور فتية دافعت عن الأرض والعرض، مثلما دافع عنها آباؤهم وأجدادهم فى عام 1973، بالدم والعرق وبروح قتالية شرسة لا تهاب الموت ولا تضعه فى أى اعتبار سوى أنه مرحلة لنيل الشهادة فى سبيل الله والوطن وليس فى سبيل أمير التنظيم.
"يطنطن" أحدهم محاولا إحباط حالة شجن المصريين، بأن يدون عدة سطور عن هذه الملحمة مؤكدا أنها رائعة وكذا وكذا .....، ثم يختم بكلمة "ولكن"، التى يعقبها كم سفالات مبطنة ظاهرها "الإشادة الموضوعية" وباطنها "الخبث الأسود" الذى يدل على شخصيات معتوهة لا تدرى ما تكتب..
تهذى فى محاولة إثبات الاختلاف ومخالفة الآخرين، أو تدس السم فى العسل بمعسول الكلام الذى يدل على غل يكوى صدورهم، من نجاح عمل درامى التف حوله المصريون والعرب، وأحبه الأطفال قبل الكبار.
اقرأ أيضا: أخلاقيات المواطن أثناء الأزمات
ولهؤلاء "الأنطاع" سؤالا واحدا: ما حالك لو تمكن كلاب أهل النار من الانقضاض على منزلك واقتياد زوجتك وابنتك والتناوب عليهما اغتصابا من حثالة البشر المرتزقة القتلة، هل تخيلت كيف حمى الأبطال عرضك.
فاجأتنى طفلتى ابنة العشرة سنوات بعد تلك الحلقة الرائعة برغبتها فى مشاهدة صور جدها الراحل حينما كان مجندا فى حرب 1967، رويت لها عن استمراره فى الخدمة العسكرية على مدار ستة أعوام، حاملا سلاحه "قاذف اللهب" وحكاياته داخل الكتيبة مع زملائه، فكانت فرصة أكثر من رائعة للسرد عن بطولات حرب الاستنزاف حتى عبور 1973..
وما كان فى تلك الفترة المجيدة من قصص تستحق مئات الأعمال الدرامية التى تقرب تاريخ الأمة لاذهان النشء، مثلما فعلت سابقا روائع سينمائية كان آخرها "الممر" ثم "الاختيار".
اقرأ أيضا: حديث القلوب
كنا فى حاجة ماسة أن نشاهد عن قرب كيف كنا نأكل ونرتع فى الولائم وغيرنا يموت بينما طعام الافطار فى فمه، كيف كنا نلعب وغيرنا بترت أصابعه وظل يقاتل وهو يدافع عنا، كيف كنا لا نكترث بأرقام الشهداء ثم أصبح كل رقم منهم اسطورة وطنية، دخلنا الحلقات فى حالة من العادية، وخرجنا منها بضمير ووجدان مختلف زاد من حب هذه الأرض الطاهرة وكره واستقبح أكثر أن يري أقداما نجسة تطئها.
تيقنا أن كل راحل من أبطال الوطن هو ملحمة وطنية بحد ذاته، وثيقة إنجازات تاريخية لأمة مصرية وطنية صنعت عزم الرجال، وستظل ترهب أعداء الله وأعداء البشرية إلى قيام الساعة.