مدينتنا ومدينتهم!
هل استمعتم إلي أي حلقة من حلقات "ساعة لقلبك" وتعيدها إذاعتنا المصرية على الدوام وبانتظام؟! هذه كانت خفة دم المصريين ونكاتهم وسخرياتهم.. لا خروج فيها عن الأدب ولا تسافل من أي نوع.. فلا سخرية من أحد ولا إهانة بسبب عرقه أو لونه أو جهته أو لهجته!
وهل استمعتم إلى أغنية "الراجل ده هيجنني" الرمضانية الشهيرة؟ كلماتها التي صاغها بإبداع منقطع النظير حسين السيد وفيها ما يتناوله عموم الناس في مصر بمتوسط أصناف يسع الشريحة الكبرى في مصر!
وهل شاهدت حفلات أم كلثوم؟! قطعا لاحظت أناقة المصريين ورقيهم وذوقهم الرفيع ليس في ملابسهم وانواعها فقط وإنما أيضا بطريقتهم في التعبير عن إعجابهم بفن كوكب الشرق.. طريقة التصفيق.. الهتاف.. كله بحدود اللياقة وبما تقبله الانفس وبما يقبله منطق أم كلثوم ذاتها!
اقرأ ايضا: السيسي في الوقت المناسب!
ستقول إن حضورها وجمهورها من الطبقة الراقية؟! إسمها الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة لكن هل تريد أن تري الطبقة المتوسطة كلها؟! شاهد تسجيلات قديمة من الستينيات لأي مبارة لكرة قدم باستاد ناصر -القاهرة حاليا كما غيروه وفاء عكسيا لقائد ثورة البلاد ومؤسس نظامها الجمهوري- وشاهد الجمهور وقد التحق بالمدرجات بلا شروط إلا اتباع قواعد الأمن لكن بلا زي محدد ولا اشتراط هتاف محدد ستجد الناس شبه بعضهم إلي حد كبير وإلتزام شكلي وموضوع إلى أكبر درجة!
هل ترانا نبالغ؟! شاهد فيلم أم العروسة.. وكيف كانت الاسرة المتوسطة تعيش بما يسمح أن يكون للبنات غرفهم وللاولاد غرفهم وفي المنزل آلات موسيقية.. وأزياء الاسرة نفسها تتقارب مع أسرة العريس مع أسر الجيران.. وهكذا في أفلام هذه الفترة التي عكست حال المجتمع دون أن تعرف طبعا إننا سنحتاج للعودة للتاريخ لنقارن بينهم وبين من وما سيأتي بعدهم!
قبل الخمسينيات كانت مصر طبقات عديدة.. من القصور إلى القبور فرق السماء والارض.. ستراهم في سراي الأمراء والبشاوات إلي بيوت المصريين في أفلام العزيمة وأبو حلموس.. والآن ونحن نقترب من نصف قرن علي عودة الطبقية التي ضربت بلادنا منذ الانفتاح الاقتصادي الذي أقره الرئيس السادات.. والذي ضرب مجتمعنا في مقتل.. ولا تقتصر صورته على التهريب والتهليب والفساد واختلال القيم ليتراجع الأستاذ الجامعي والعلم عموما أمام سطوة المال حتي لو كان حراما..
اقرأ ايضا: فيروس الاخوان!
ولا أيضا فقط الأفكار الوهابية وتسلل التطرف والطائفية.. بل وصلنا إلي طبقية مقيتة جعلت الجدل يدور بين مدينتهم ومدينتنا.. ولا نقصد ذلك بالمعني السطحي كما سيفهم البعض.. ولا نقصد رفض التنوع وقدرات البعض ومواهبهم وكفاءاتهم عن غيرهم.. إنما نقصد الفروق المقبولة المنطقية غير الجارحة..
نقصد الفرق بين حال عموم الناس ظلموا طويلا وذهبت مخصصاتهم لقرى الكبار بالشمالي وغيره.. ويعود الإهتمام بهم اليوم وبين الطبقة التي استفادت من ذلك.. حتي بات الأمر نكتة مبكية.. كوميديا سوداء كما يسمونها ولكنها من مخلفات زمن ولي.. توقف عند 2014 لكن ستبقي اثاره معنا بعض الشئ.. ولذلك نشعر بالحنين لمدينتنا الحقيقة التي شاهدها الأجداد والأباء.. حيث عصر لم نولد فيه.. وزمن لم نعشه!