رئيس التحرير
عصام كامل

سنة أولى بحث

"أنت هنا لتبحث عن معلومات متعلقة بالموضوع محل النقاش معي؛ ولست فى انتظار وصول المعلومة إليك. أنت هنا مشروع باحث؛ ولست دارسا".

 

بهذه الكلمات استقبلنا الدكتور فاروق القاضى أستاذ التاريخ القديم بكلية الآداب جامعة عين شمس قبل أكثر من عقدين، كنت قد ابتعدت عن الضغوطات النفسية والعصبية فى مرحلة الثانوية العامة باختباري ضمن طلبة "المنازل"..

 

ولم أكن قد حصلت على أية دروس فى أي مادة؛ عدا اللغة الألمانية التى منحني فيها صديق عدة ساعات لعامين دراسيين، فلم تكن ضمن مواد الدراسة بالمرحلة الإعدادية، وهكذا كان التعامل مع المعلومة مباشرا دون وسيط؛ وفى حدود المنهج المقرر وبلا وسائط إلكترونية مساعدة، فقط الكتاب المدرسي.

 

اقرأ أيضا: الشائعات الإخوانية وحادث الأميرية

 

كانت ظروف الدراسة مع الإهمال الذي أصاب العملية التعليمية بكافة عناصرها صعبة على كل بسيط مكابر، سهلة مع كل متواكل متكاسل، هكذا كان توصيفى للطلبة عدا من احتج على غياب معلمه عن دوره داخل الفصل، أقصد ذلك الذي اكتفى بحضوره أول العام الدراسي ليكتب على السبورة رقم هاتفه وعناوين مراكز الدروس الخصوصية المتواجد بها ومواعيد محاضراته المتعبقرة داخلها.

 

كانت الكلفة كبيرة حقا؛ ولا تزال؛ على الأسر البسيطة التى باتت الثانوية العامة "البعبع" لها، وكأنها تذهب بنفسها وأبنائها إلى الجحيم فى مشهد نسف قاعدة مجتمعية قديمة فى التعامل مع الدراسة مفادة أن "البليد وحده هو من يذهب إلى طريق الدروس الخصوصية".

 

لا يهم غياب المعلم عن الفصل أو تخلف الطالب عن المدرسة، فالأخير سيعوض ذلك بما يدبره له والده من مال يذهب به فى المساء لحضور "حصة" مدفوعة بأحد الفصول الأكثر تكدسا فوق أحد أبنية دور العبادة، وربما "يضرب فلوس الحصة فى جيبه" ويكتفى بشراء "الملزمة" أو تصويرها فهى مفندة للمنهج شارحة لنفسها حسبما ارتضى لها واضعها العبقري.

 

اقرأ أيضا: دروس من الأزمة.. كورونا مجرد بداية

 

ولو تخلف الطالب طوال الشهر عن محاضرات عملاق المادة أو داهية التخصص أو إمبراطور التوقعات المرئية؛ فتكفيه المراجعات الختامية لاختصار واختزال المرحلة كلها فى مواسم الإمتحانات وأوراق الأسئلة.

 

عاصرت هذه العينة من الطلبة الذين دخلوا الجامعات وتعاملوا مع سنواتها بنفس الفكر المتخلف العقيم الذي أداروا بهم مراحل الدراسة قبل الجامعية، وكثير منهم حصلوا على تقديرات بالحفظ والاستذكار أو نالوا مؤهلاتهم وتاهوا بها فى زحام الحياة بحثا عن فرص عمل غير مناسبة، فلم تتبدل سلوكياتهم داخل أسوار الجامعة عما كانت عليه مرحلة المدرسة..

 

يتجاهلون موضوع البحث ويرهقون أنفسهم بالتزام متخلف بما يطرحه الأستاذ الجامعى من كتاب خاص، يشترونه أو يكتفون بتصويره توفيرا لنفقات كانت الكافيتريات أولى بها، أو ربما يتجاهلون كل ذلك ويذهبون إلى طريق "الملخصات" التى يحترف جمعها وطبعها وبيعها فاشلون من زملائهم.

 

أتذكر كل هذا وأنا أمر بالأمس إلى جوار محل لطباعة اللافتات وتصوير المستندات؛ يجاور مسجدا بالحى الذي ولدت فيه؛ أغلقت الحكومة فوقه مركزا للدروس الخصوصية ضمن الإجراءات الاحترازية التى تتخذها للحد من انتشار فيروس كورونا، وقد علق المحل لافتة "يوجد لدينا إعداد وكتابة بحوث لكافة السنوات الدراسية لطلاب المدارس والجامعات".

 

اقرأ أيضا: الهروب من القاهرة

 

هناك؛ وقف أولياء أمور وطلاب كشفت الأزمة فجوة بين جهود إنفاقهم المادي السنوي على التعليم؛ وبين عوائده المعرفية الحقيقية التى لا وجود لها خارج ورقة الإمتحان؛ والتى لا تخرج عن مهمة تفريغ كلمات متوقعة النزول يحشرها ملقنون بأدمغتهم ليلة المراجعة، حتى تحولوا تباعا من باحثين محتملين إلى طلاب؛ وطواعية إلى وسطاء نقل معلومات على اختلاف تفسيرها وإسقاطها، وأخيرا إلى أسماء مدونة على مادة مجموعة لا علاقة لهم بها ولم يسطروا كلمة فيها.

 

تجربة "كورونا" التعليمية؛ أو كما أطلق أنا عليها؛ فرصة كبيرة لإعادة النظر فى مدخلات ومخرجات التعليم كلها، واستعادة قيمته باسترجاع العقول المستهدفة به، ومشروعات البحوث المطلوبة لسنوات النقل لمراحل متعددة؛ مجرد خطوة تمحى معها طرقا بالية فى التعليم تعتمد فكرة بيع المعلومة وتداولها كسلعة.

 

هكذا يمكن أن نجد أطروحات جديدة فى التعامل مع الكتاب المدرسي؛ والجامعى أيضا؛ كوسيط استفزازي أو وسيلة إبتزاز، وستكون هناك خطوات أبسط فى اعتماد رؤية متطورة لتطبيق مفهوم التعليم عن بعد؛ إذا ما حضرت قرارات جديدة معبرة عن إرادة إصلاح.

 

اقرأ أيضا: أم في مواجهة ابنتها الحاضن

 

مصر كلها تعيش الآن مرحلة "سنة أولى بحث"، أولياء أمور وطلاب ومعلمون وإداريون ومتخذو قرار فى اختبار هذه المرحلة، اختبار لم يضعهم فيه وزير أو مستشار وزارة، ولكنه ابتلاء تعيد معه أنظمة ودول ترتب أولوياتها ومصالحها، وليس التعليم ببعيد عن حساباتها؛ والنشء أيضا، ومع هذه الظروف تتبدل شروط سوق العمل للقبول بخريج يحدد بنفسه مستواه ومهاراته.

 

استيفاء شروط المستقبل بات بأيدي الباحثين عنه وحدهم، وبالضرورة سيخرج من بين أيدي المتكاسلين، وينسحب من طريق المفرطين فيه، ولن تجد معه حضورا للمتجاهلين لشروطه، كما لن يجدوا لأنفسهم مساحة للتحرك داخله.

الجريدة الرسمية