امرأة تحترف الغياب
المرأة التي تحترف الغياب تحاول الفرار من نفسها عبر السفر، غير أن تاريخها يطاردها في الموانئ والمدن والشوارع والمباني التي تمر بها. هي ضحية رجل –غبي – أصابها بالعدوى، فقتلت الرجل الوحيد الذي أحبها.
1
في عيد ميلادي أهدتني حبيبتي رصاصة نحاسية، رشقتها في صدري، ووعدتها ألا أنزعها رغم الألم، لكنها حين رحلت واحترفت الغياب، قررت أن أخرج الرصاصة لعلها تحمل رسالة منها، ومن عجب أنني بالفعل وجدتها قد حفرت عليها هذه الكلمات: «كنت أعلم أنك ستخون العهد وتنتزع الرصاصة».
في هذه الأثناء كان صدري ينزف ذكرياته، حتى إنها كانت تسيل على الأرض فتتجسد أمامي مشاهد حية تحدث الآن..
في واحد من هذه المشاهد رأيتني أنا وحبيبتي نجلس على أريكة من خشب أحمر تتوسط حديقة ذات أشجار مورقة، حيث كنا نتعاهد على البقاء للأبد، وقد دونا معاهدتنا هذه بقلب يخترقه سهم وعلى كل طرف من طرفيه حروف اسمينا..
اقرأ أيضا: طب ينفع ده؟!
وفي مشهد ثان، رأيتنا نبني قصرا من رمال على شاطئ ممتد أمواجه عالية تناور كأفعة تتلوى كي تطال القصر وتعيده حبات من الرمل المشتت..
أما المشهد الثالث، فرأيتنا فيه نضع قطعا من النقود داخل علبة معدنية تتوسطها فتحة صغيرة، قبل أن تهم شريكتي بتدوين بعض الأرقام في دفتر صغير، ثم تصيح: «ها قد اقتربنا..».
بينما رأيت في المشهد الرابع بطن حبيبتي ينتفخ كبالون في يد طفلة تحتفل بالعيد.. ولم يكن بطنها كباقي البطون، إذ رأيت جلده يتحول إلى شاشة ملونة تعرض فيلما لفتيات صغيرات يركلن الكرة في مرح..
وفي المشهد الأخير، رأيت في ما يرى المتيقظ حقيبة سفر صغيرة، لكن على ضيق مساحتها كان لها أن تبتلع بيتا وعائلة وحلما بطول العمر..
اقرأ أيضا: حكايات تبحث عن راوي
انتهيت من رؤية المشاهد، ورحت أعيد الرصاصة إلى موضعها في عمق صدري، لكنها لم تستقر كما كانت، حيث غاصت نحو أبعد نقطة في دمي وذابت مثل حمم من نيران متوهجة لفظها بركان ثائر، وتمددت في عروقي وشرايني فحولتني تمثالا من النحاس.. تمثال ليس له إلا أن ينظر في اتجاه واحد، منتظرا لمسة من عصا سحرية تمده بطاقة نورانية قادرة على تشغيله من جديد.
2
في كل ليلة
أغلق باب غرفتي
أختلق قصة
شخصيات وهمية
أحداثا ملفقة
أماكن خيالية
-------
الليلة الفائتة مثلا
اعتليت ورقة شجرة
كانت تطير في الهواء
حطت بي في قرية على القمر
قابلت هناك بجعة زرقاء
أخبرتني أنها كانت تنهيدة امرأة وحيدة
---------
في ليلة أخرى
قتلت سبعين رجلا
علقت رؤوسهم على سور قصري
بينما كانت عيونهم تنظر نحوي بامتنان
--------------
في ليلة أقدم من تلك الليالي
تحولت إلى كتاب سحري
كل من مسني أصبح واحدة من صفحاتي
كل من قرأني نبتت في عينه اليسرى شجرة
--------------
في كل صباح
كنت أراجع قصة الليلة الفائتة
فاكتشف أنها لم تكن زائفة
كلها قصص حقيقية
أنا فقط المزيف فيها
3
الرجل يحتاج دائمًا إلى ظل امرأة: أم، زوجة، صديقة، فالشمس تحرق رأس الرجل العاري من امرأة.
4
أنا متعب،
مجهد في طريق طويل بلا نهاية
لكنني لا أشتهي الراحة
بل كتف امرأة تحترف السفر
أغفو في كفها
أمشط شعرها
أغمض عيني وأتحسس وجهها
لألف مرة
حتى أحفظ ملامحها
وحدها من تحترف السفر يمكنها أن تحتوي أوجاع المسافرين بلا وجهة
وتحولها أسلاكا من الفضة
لتصنع منها خلخالا
يزين سيقان الصبايا
ويضيع في الرمل على الشاطئ