طب ينفع كده؟!
من خلال شرفة بقصره العالي في مملكة جبال الملح، وقف الحاكم سوخو يمسح الأرجاء ببصره، إلى أن استقر على شجرة يعتليها كروان يصدح بصوته ليشق السكون الذي يلف المكان، ثم دلف الرجل إلى داخل القصر وعاد سريعا وهو يحمل «نبلة» وأطلق منها حجرا صغيرا لم يُخطئ رأس الطائر المسكين، الذي لفظ أنفاسه الأخيرة وتلاشى صوته تدريجيا وكأنه أوركستر يعزف الجملة الختامية في سيمفونية جنائزية.
ابتسم "سوخو" للحظة، ثم سرعان ما عادت التكشيرة إلى وجهه.. تلك التكشيرة التي يقول عنها أهل المملكة – في الخفاء طبعا – إن "سوخو" يخشى إن ضحك ألا يستطيع استعادة تكشيرته، لهذا فهو نادر التبسم.
إنه الملل..
رجل يحكم مملكة مترامية الأطراف، يملك كل شيء: مال سلطة نفوذ قوة، حتى النساء، لا يمكن لواحدة أن قالت له «كلا»، فمن يشر لها بإصبعه تذهب صاغرة إلى فراشه، لكن على كل حال لم يكن في ذهابها إلى الفراش بالأمر المخيف، فالملك يداري عجزه باستدعاء أكبر عدد ممكن من النساء إلى مخدعه، فقط ليتحدث الناس –في الخفاء– عن نزواته وشراهته الجنسية. كل ذلك لم يكن كافيا لتنقشع غيمة الملل عن سماء "سوخو".
لهذا فكر الرجل في أن يلعب لعبة تجلب له التسلية، فاستدعى وزيره الأول وطلب منه أن يطلق المنادين في شوارع المملكة، ليدعو الناس إلى باحة القصر.. لم يسأل الوزير عن السبب، فهكذا تعود، وهو أيضا يعلم أنه إن سأل أي سؤال إن كان، فإنه لن يرى الشمس مرة أخرى.
في غضون ساعة أو بعض ساعة، كانت باحة القصر قد اكتظت بالناس على اختلاف أعمارهم وألوانهم، رجال ونساء، شيوخ وأطفال. من شرفته صاح "سوخو": «شعبي الجميل، مليككم يشعر بالملل، بل الضجر، فهل تساعدونني في أن أتسلى؟».
لم تسمع كلمة في المكان، فليس هناك من بين هؤلاء المتجمعين من يمكنه أن يغامر برقبته إن تحدث في حضرة الملك، فهذه عادة مملكة جبال الملح، «الكلام ممنوع»، إلا إذ وجه لك الملك سؤالا مباشرا، وقتها لابد وأن ترد، لكن احذر أن تتفوه بكلمة تغضب هذا الرجل، فذاك حتما سيكلفك حياتك.
تعجب "سوخو" من صمت «شعبه الجميل»، لكنه سرعان ما تذكر أن الكلام ممنوع، فضحك نصف ضحكة، وسرعان ما خبأها، وهو يقول: «آه فهمت.. إذا أنا أعطيكم الإذن كي تجيبوا على سؤالي.. فهل تساعدونني في أن أتسلى؟».
ساد الصمت مرة أخرى، غير أن نظرة من عيني الملك الغاضب كانت كفيلة بأن ترتفع الحناجر صارخة: «أجل يا مولانا أجل».
أخبرهم الملك أنه سينزل إليهم وسيسأل كل منهم سؤالا، وسيتوقف رد فعله بعد ذلك على ما سيرد به المسئول عن السؤال، وبالفعل هبط الملك الدرج وسار بين الناس متبوعا بجوقة من الحراس، إلى أن توقف أمام رجل عجوز، فسأله: «هل يمكنك أن تقل لي لفظة (لا) يوما؟».
بهت الرجل محني الظهر، وانشل تفكيره، فماذا يقول للملك، غير أن "سوخو" لم يترك له مجالا، فصرخ فيه: انطق أيها العجوز وإلا أطحت رأسك.
ازدرد العجوز ريقه، ثم قال: «ماذا أقول يا مولاي؟».
صاح الملك: «هل يمكنك أن تقل لي لفظة (لا) يوما؟».
العجوز: «لا».
الملك ضاحكا في خبث: هاهاهاهاها يا لك من عبيط إنك قلتها توا.. يا حراس اسجنوه.
ألقى الحراس القبض على العجوز واقتادوه إلى السجن، بينما كان الملك "سوخو" يقف أمام شابة جميلة ليسألها السؤال نفسه: «هل يمكنك أن تقولي لي لفظة لا يوما؟».
الشابة: «مولاي.. ومن ذا الذي مكنه أن يقل ذلك لك؟».
ضحك الملك في داخله، ثم قال للشابة الجميلة الواقفة أمامه: «أعجبني حديثك لكن ذلك لن ينجيك، فلا يرد على سؤال الملك بسؤال.. يا حراس اسجنوها»، ثم استدرك: «في مخدعي».
بعدها توقف الملك أمام رجل في عقده الخامس، وسأله كسابقيه، فسعل الرجل وزاغ بصره، ثم قال مازحا: «نعم». اندهش الملك وكرر السؤال: «هل يمكنك يوما أن تقل لي لفظة لا؟»، رد الرجل ضاحكا: «نعم يا مولاي نعم»، فضحك الملك وصاح: «اقتلوا ابن الظريفة».
وهكذا راح الملك المجذوب يكرر سؤاله، والناس يكررون الإجابات ما بين نعم ولا، فيلقون المصير ذاته، وهو السجن.
وأخيرا، وقف "سوخو" أمام أحد الشبان وسأله السؤال المعهود، غير أن الشاب لم يجب، فكرر الملك سؤاله مرة ومرة ومرة وهو يصرخ، فأشار له المسكين الواقف أمامه بإشارات لم يفهمها الملك، وهنا تدخل الوزير قائلا: «سيدي إن هذا الشاب أخرس لا يمكنه أن يتحدث».
اتسعت حدقتا "سوخو" وأخذ يضحك بشكل هيستيري، قبل أن يصيح: «حسنا حسنا، هذا هو ما أريده.. اقطعوا ألسنة الناس.. ذاك أفضل لي ولهم».
سارع الوزير: «أمر موالي.. لكن اسمح لي بسؤال بسيط»، هز الملك رأسه، فواصل الوزير: «حين تشعر بالملل وتشتاق لسماع كلمة (لا) مثلا، فماذا نفعل؟!».
همهم الملك وفرك لحيته بيده اليسرى، ثم صاح كمن اكتشف جزيرة بعد أن ضلت سفينته في الماء لسبع سنين: «وجدتها.. وقتها يمكنك أنت أن تقل لي لا».
ابتسم الوزير وهو يحملق في الملك المجذوب، وأخذ يردد: «واووووووو يالها من فكرة عظيمة يا مولاي». ومذاك صار الناس بلا ألسنة، بينما الملك يرقص وه يغني «طب ينفع كده!!»، فيسارع الوزير بالرد وهو يهز وسطه: «لأ لأ».