كفر البهو.. قريش في قلب الدقهلية
بعض آثار التجلي الذي نحياه وسط ركام الهلع والخوف والرهبة دون التدبر فيما جرى وما يجري، كانت قد ألقت بظلالها على أفكاري المبعثرة، خجلا من رب أصاب القوم كل القوم بامتحان عصيب، قلبت الصور الواردة إلي من قرية شبرا البهو بمركز أجا دقهلية، ومعها قامت ثورة في رأسى حاولت إيقافها دون جدوى، مشاهد تتداعى على الذاكرة المتخمة بالتناقض الحاصل في ديارنا.
تذكرت عندما كنت أقرر الوصول إلى المسجد مبكرا، أيام أن كانت المساجد مفتوحة للمصلين العاكفين الركع السجود، أتوضأ في ميضة متسخة مشحونة بالقاذورات، وقبل أن أنتهى من وضوئي كنت أقرأ لافتة تقول"النظافة من الإيمان"!
لن أحدثكم عن دورات المياه في جل المساجد، وما تزخر به من لفائف تحتفظ بداخلها بكل صنوف اللامبالاة، وروائح لا تبعث على الطمأنينة أو الراحة، أدخل إلى صحن الجامع، وإذا بأعداد كبيرة قد بكرت من مجيئها، أبحث عن مكان بين شخصين يبدو بينهما متسع، يفسح لى أحدهما في ضيق لا يقل عن ضجر الآخر!!
اقرأ أيضا: الصفقة الحرام بفاكسيرا
عادة ما أكون في حالة روحانية لا تترك لي فرصة التفكير في ملامح الرجلين عن يميني وعن يسارى، يحدثنا الإمام عن عظمة الإسلام وسماحته، وكيف حول قبائل متصارعة إلى أمة تحيا على الحب والتعاون والبر والتقوى، علامات التأثر بادية على معظم الوجوه، والرجل الإمام يصر على توصيل رسالته بصوت جهورى، رغم وجود عدد من السماعات المعلقة على جدران المساجد تسمح بسماع مجرد أنفاسه وبقوة.. ما علينا.. فخطباؤنا ورثوا طريقة الخطابة منذ أن كان الخطيب يعتلي جذع نخلة ومطلوب منه أن يصل بصوته إلى آخر الصفوف!!
بصوت رخيم يتلو الإمام آيات من الذكر الحكيم، فاتحة الكتاب والمصلون من ورائه يرددون من حناجر قوية آآآآآآآااامين، يتلو ما تيسر ثم يقول: الله أكبر، ونحن من خلفه طائعون، نركع ثم نقف ثم نسجد في مشهد قد يوحى لمن يراه أنه سافر عبر آلة الزمن إلى عصور الصحابة الأوائل، يسلم الإمام ونحن من خلفه، يختم الصلاة ويدعو ونحن من ورائه نردد: آآآااامين، بعضنا يتبرع للمسجد الذي يحتاج إلى صيانات متعددة.
اقرأ أيضا: كارثة في قطاع السياحة
تشهد منطقة حفظ الأحذية زحام الخارجين من التخشيبة، ونتدافع وربما نتعارك على من يخرج أولا، بعد أن نسينا كلام الإمام، وخطفتنا دنيا الصراع إلى عالمها المتخم بأفكار الدنيا الفانية، التي كان يحادثنا عنها الإمام منذ لحظات، نتفرق كما لو كنا لم نلتق منذ لحظات، على كلمات الوحدة والحب والتسامح والإخاء، تتحول خطبة الداعية إلى مجرد كلام، جزء من مشهد في مسرحية يؤدي كل واحد منا دوره فيها بإتقان.
مثل هؤلاء الناس هم من نادوا في مكبرات صوت مساجد قرية شبرا البهو، لمنع جثمان طاهر أن يدفن، ونسينا أن إكرام الميت دفنه، تجاهلوا أن مساجد الله إنما جعلت ليذكر فيها اسمه، وأن من أسمائه الرحمن الرحيم، اللطيف الخبير، الجبار، المتعال، ومثل هؤلاء الناس هم من تزاحموا في وحدة وتناغم غريبين لمنع جثمان طبيبة ربت بناتها على الحب، فتخرجن في كليات الطب المختلفة لعلاج الناس، كل الناس.
اقرأ أيضا: "الندالة" شعار الأسرة الدولية في مواجهة كورونا
هذا التزاحم العجيب والغريب جاء من أجل هدف خبيث، منع نقل مرض لا ينتقل من الموتى إلى الأحياء، وهم في تزاحمهم هذا إنما ينكرون بالأمر الواقع هدفهم اللئيم، تدافعهم وتزاحمهم هو المرض نفسه، فكيف أرادوا أن نصدق أن في فعلتهم درء المفسدة، زوج الطبيبة الذي ناضل طوال حياته ليقدم لمجتمعه نخبة من أبنائه، وليقدم لذات المجتمع مؤسسات تعليمية، ويتبرع لأهله في عديد المناحي يجد نفسه أمام موقف عصيب، فشريكة حياته التي كافحت من أجل بلادها وأهلها لا تجد مكانا لها بين التراب!
هؤلاء القوم يصلون مثلما نصلى، ويتدافعون للخروج من المسجد عقب الصلاة مثلما نتزاحم، وينصتون للإمام، وتعقد جباههم كلما مر الداعية على واحد من مواقف الصحابة الأخيار، وربما يبكون في صلوات التراويح ويكتبون على صفحات فيس بوك أدعية الصباح وأذكار المساء، ويتلون من القرآن بعض آياته، وكثير منهم ذهب إلى المدارس والجامعات، وقرأ شعرا في إيثار القيم النبيلة، ودرس قصصا عن المضحين بأنفسهم من أجل بلادهم ومجتمعاتهم..
اقرأ أيضا: خالد منتصر بين التفكير والتكفير!!
هؤلاء القوم الذين قدموا مثالا في التعاون على الإثم أصبحوا أضحوكة العالم، ومثالا يضرب للجهل والغباء والحقد والكراهية، وهؤلاء القوم الذين اجتمعوا فجرا من أجل تحقيق الغاية والهدف الأدنى تركوا أعمالهم وحقولهم وبيوتهم ليحققوا المراد، ليمنعوا إنسانا أن يوارى الثرى، أن ينال حقه في الدفن، مجرد الدفن، والزوج وبناته يواجهون موقفا لم يحدث في تاريخ البشرية كلها، موقف بالغ الصعوبة والتعقيد، فالأسرة لا تبتغى من أهل قريتها إلا شيئا واحدا.. أن يدفنوا جثمان أم كانت مثالا في القيم النبيلة والأخلاق الحميدة.
بقية المشهد عار ما بعده عار، قوات الأمن تفرق المتعاونين على الحقد والكراهية، وتدفن الجثمان وتكمل مسيرتها بحماية القبر، أي والله حماية جثمان انتقل إلى ربه ولا يزال مهددا بالإيذاء، مهددا بنبش قبره كما أشاع بعض شباب القرية المنكوبة بفقدان الضمير، قرية فقدت قيمها في لحظة، وظهر جهلها وكفرها بنعم ربها في دقيقة، وضاع منهم النبيل وسط ركام الجمهرة المتخلفة.. نعم لابد وأن يكون في القرية بشر طبيعيون، رجال ونساء نبلاء يؤمنون بما نؤمن ويعتقدون فيما نعتقد.
اقرأ أيضا: حكاية كسوة السيدة زينب
هذا العار الذي رسمته لحظات من الكراهية للحياة والحقد على جثامين الموتى، سيظل يطارد أبناء هذه القرية، رغم أن فيهم عقلاء ومتعلمين ورجالا حاولوا إثناء الغباء وإزاحة الجهل دون جدوى... فصورهم نشرتها كافة صحف العالم، وعلى النقيض منها نقلت صورا راقية عظيمة لأهالي كفر الشيخ الذين صلوا صلاة الجنازة، محققين التباعد على ضحية من ضحايا كورونا، وواسوا أهلها ووقفوا بجوارهم وتعاونوا على البر والتقوى.
الفارق بين هؤلاء وهؤلاء أن الحقد لا يولد في قلب إنسان طبيعي، حتى وإن لم تنزل عليه رسالة من السماء، وأن صناعة الكراهية تولد في الإنسان كلما ضل الطريق إلى فطرته، هؤلاء طعنوا فطرتهم، وهؤلاء تمسكوا بها، واحتفظوا بقلوبهم الصافية المؤمنة.. بعض من في قرية شبرا البهو بحاجة إلى رسالة جديدة، نبى جديد، دين جديد، معلم مخلص، بحاجة لأن يعرفوا أنهم يحاكمون الآن أمام ضمير البشرية، وغدا سيحاكمون أمام الله، وعليهم أن يبحثوا عن إجابة مقنعة تبرر ما فعلوه بآدميتهم المسلوبة منهم!!