عن أم مصرية افتقدت إبتسامتها
بالأمس؛ عدت لمكان مولدى بالحى الشعبي شمال العاصمة؛ لأقدم واجب العزاء فى واحدة من أروع أمهات بيوتنا المصرية، أو قل لأعزي نفسي فيها، الجارة المتفاءلة دائما الحاجة أم محمد.
لنحو ٤٠ سنة؛ ظل شارعنا تضيء ناصيته بابتسامتها وهى تستقبل كل جيرانها وتحاورهم حول يوميات متقلبة، تخفف بمواساتها عن صاحب مصاب أو مريض؛ وتبارك بمشاركتها كل ذى فرحة متمنية له ما يفوق طموحه.
لم تضع يوما أبناءها فى مقارنات مع الغير؛ وقد وهبها الله وزوجها المحارب القديم خمسة من الذكور والإناث لا تقارن أخلاقهم بغيرهم؛ وقد اقتطفوا من روحها ثمار تسامح أشهد أنهم زرعوها بمعاملاتهم فى طريق كل من عرفوهم، فكانت ابتساماتهم الراضية بقضاء الله تميزهم وقتما فارقتهم الغالية واقفين لتلقى العزاء فى رحيلها.
اقرأ ايضا: ماذا تريدون من 15 مليون "جنة"؟
أما الأب والزوج الرحيم برفيقة حياته وأبنائه؛ والذي طالما ظل مربيا فاضلا وموجها للصواب والخير لكل من حوله؛ مهتديا بتربية راقية وخبرة ميدانية عسكرية شديدة، فتعرف فى وجهه البشارة وتدرك فى نظرات عينيه المعنى الأعمق للنصيحة؛ تشهد فى نظراته الحسرة لفقدان الشريكة التى لا تنفصل عن تكوينه كلية، وهما من أدارا علاقة تفتقدها أجيال جديدة نالت حظا أكبر من تعليم ومعرفة لم يحققا لها جزءا من وعى هذين الزوجين العاشقين حقا.
رحلت الأم؛ أم محمد؛ وكنت صاحب حظ ورزق فى دعوة قلبية منها ظلت رصيدي اليومي وحصني كلما قابلت وجهها مطلا من شرفتها، أتوقف قليلا أمام نوره؛ أكرر تساؤلاتي لها عن صحتها ورفيقها؛ وأعرض خدماتي طاعة لأمر أترقبه متلهفا مشتاقا، ودائما ما تبادرني بالرد "ربنا يسعد أيامك ويستر طريقك يا بنى"، وهى الدعوة التى لاحظ كل أحبتي أنني أكررها لهم منذ سنوات بعيدة بنفس كلماتها كلما أردت التعبير عن أمنياتي الطيبة لهم.
اقرأ ايضا: تحرير عقود الزواج هل يصبح حلا؟
فى حى شعبي تتبدل مشاهده وتنهار ذكرياته لأسباب قدرية وتطورات عبثية؛ ظل نموذج أسرة الأم "أم محمد" وزوجها المحارب القديم الحاج عبد الرءوف؛ حالة تسترعى انتباه من يدركون قيمة التراحم ويباشرون صلة الأرحام بالفطرة التى ندركها ونتباهى بها قديما داخل الريف المصري..
صورة نقلتها بحذافيرها الأم السكندرية والزوج المنوفي إلى بيوت الحي الشعبي بالعاصمة؛ حتى إن مجلسيهما؛ مجلس الصلح والصلاح؛ ظل يجتذبني وغيري من المفتقدين لتلك الروح بين الأحبة فى زحام القاهرة؛ فلم نعد نستمتع بها فى زياراتنا الخاطفة لقرى عائلاتنا بالريف نفسه، ولم لا؛ وقد باتت معانى التسامح والرضا والقناعة شيئا من التراث المصري المتآكل.
اقرأ ايضا: أم في مواجهة ابنتها الحاضن
أفهم أن المرء سيرة أينما عاش ومتى رحل، وأدرك أن لحظات قليلة من العمر يحتفظ بها العقل فى ذاكرة ستهوى بكل تفاصيلها متى تحققت إرادة الله "ومن نعمره ننكسه فى الخلق"، وأحسد نفسي على ما أحتفظ به من ذكريات مع أناس لن تنقطع سيرتهم بفضل بصماتهم فى حياتنا، فرحيلهم يزيدنى إصرارا على مد جسور المودة مع أربابهم مهما ابتعدت بنا الأيام والطرقات.
دعوة بالمغفرة والرحمة أكررها وأطلبها للأم والجارة الراقية "أم محمد"؛ ولزوجها وأبنائها الصبر والسلوان، فى زمن نفتقد فيه كثيرا فطرة صلة الأرحام التى بات الترويج لمحوها جنونا مرحبا به بين من ضلوا السبيلا.