وثائق عصر مبارك
رحل الرئيس الأسبق حسنى مبارك وقد اختلف على حكمه حتى من ثاروا ضد نظامه، وفسر مواقفه بشكل مغاير من قاموا بثورتين إحداهما ضد وجوده حاكما، وكثيرون لم ينتبهوا لمدة وجوده فى السلطة؛ ثلاثين سنة.
ثلاثون سنة؛ هى مدة أولية تكفى حكومات دول كبرى للإفصاح عن وثائقها أو إتاحتها للباحثين والصحفيين على الأقل، باعتبارها حقا أصيلا للشعوب والرأي العام، حيث ينتظر الناس تفسير مواقف وإجراءات وقرارات اتخذت فى عهد حاكم راحل أثرت فى حياتهم وأحوالهم.
الوثيقة؛ دائما ما تجب أية شهادات أو مذكرات أو كتابات وتفسيرات معاصرين للحدث التاريخي ذاته، وتنسخ ما دونها من أدلة على تفسير الحدث وتحليل المواقف، ولها قيمة أعلى فى كتابة صحيحة لتاريخ حقيقي للدول.
مبارك هو الرئيس الرابع لمصر، اختاره الرئيس الشهيد محمد أنور السادات نائبا له عام ١٩٧٥، لتشهد حياته مسلكا سياسيا جديدا يضاف لسجله العسكري، ويكون فى قلب دائرة صنع قرارات مهمة، أعلاها وقتئذ عقد اتفاقية السلام مع إسرائيل.
"سيذكر التاريخ ما لنا وما علينا؛ إن الوطن باق والأشخاص زائلون"، قالها مبارك خلال أيام التظاهرات الشعبية ضد نظامه فى يناير ٢٠١١، وبالأمس، تابعنا الرئيس عبد الفتاح السيسي وكبار رجال الدولة وقادة القوات المسلحة؛ يشيعون فى جنازة عسكرية بمشاركة شعبية الرئيس الأسبق، فى مشهد مؤكد على موقف رسمي مهم من هذا الرجل؛ ويؤكد أيضا أن أسرار "يناير" وما شهدته مصر قبلها بسنوات؛ لا تزال فى خزائن مؤسساتها.
قبل ٢٠ سنة، حينما كنت أدرس علم التاريخ فى جامعة عين شمس؛ أفصح لى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب، احتفظ باسمه، عن تكليفه وقتئذ بالإشراف على ما يسمى بمركز "وثائق مصر المعاصرة"، ويتبع رئاسة الجمهورية.
وحسب حديثه معي وقتئذ، أكد لى أن رئيس ديوان رئيس الجمهورية الدكتور زكريا عزمى، والذي ظل فى منصبه ومكتبه حتى منتصف ٢٠١١ ؛ كان مسؤولا مباشرا عن متابعة العمل به، وتحت إشراف "الأستاذ الكبير" عمل باحثون أكاديميون كانت مهمتهم الأساسية منصبة على جمع وتصنيف وتحليل وثائق مصر فى العصر الجمهوري؛ مضافا إليها ما أتيحت لهم من وثائق تخص مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى إطاحة حركة الضباط الأحرار بالحكم الملكي.
أعتقد أن مشروعا عظيما كهذا، استهدف به مبارك وقتها وضع وثائق مصر المعاصرة على الطريق الصحيح تحت تصرف علماء للبت فيها والعمل على تقديم رؤية مختلفة لمناهج ظلت الأحداث والمعلومات فيها مبهمة، حتى فقدت أجيال إحساسها بقيمة حقيقية لتاريخ يحمل ما هو أكثر من معركة هنا أو سيرة حاكم هناك، لكن يظل التساؤل مستمرا حول مصير هذا المركز وهذا المشروع القومي الكبير.
إجراءات انتقال السلطة فى مصر بين نظام وآخر بها من الأسرار ما يغلب الرواية السياسية عن طابعها الدستوري، ويقدم ما يشير إلى فهم دقيق لما يجب أن يكون المستقبل عليه من تخطيط وتوظيف لقدرات البلاد ومواردها البشرية والمادية ومسارات علاقاتها الخارجية وسياساتها العامة، ومن ثم تفسير أية تحولات سياسية أو اقتصادية مدعومة بتأييد شعبي أو رفض جماهيري لهان وهى المحطات الأبرز فى حكم مبارك ونظامه؛ وقد شهد عصره تعديلات دستورية في مايو ٢٠٠٥ استهدفت تحويل مسار الحكم؛ وفى مارس ٢٠٠٧ استبعدت هوية اقتصادية من دستور ١٩٧١ بعد ١٠ سنوات على التزامه ببرنامج الخصخصة.
أربعون سنة مرت على تاريخ تسلم مبارك حكم البلاد، وهى مدة كافية للبدء فى الإفصاح عن أسرار مرحلة انتقال السلطة إليه؛ واستكماله إجراءات استرداد الأرض المصرية فى سيناء، ودور مصر فى التعامل مع أزمة الخليج بعد الغزو العراقي للكويت، وآلية وشروط الإسقاط المزعوم لجزء من ديون مصر الخارجية والتخلص من القطاع العام..
والعلاقات الدولية خاصة مع أمريكا وروسيا ودول تصنيع وتصدير السلاح؛ والأنظمة العربية التى شاخ أغلبها فى السلطة حتى إن معارضين له ارتبطوا بها علانية، لم يستحوا من تأييد من جلسوا على عروشهم أكثر من ٤٠ سنة مقابل رفع شعار "كفاية" فى وجه مبارك الأقل منهم عمرا فى الحكم بمصر.
الحديث عن وثائق عصر مبارك، ومن سبقوه، يتجاوز الجدل السياسي العقيم ليحقق مصلحة مصرية وطنية عليا؛ وشعبية أيضا تركز على صحيح الوعى؛ لتفهم الأمة مسارها وتتوحد خلف مؤسسات دولة قوية.
رحم الله رؤساء مصر ومن اتقوا الله في شعبها وصانوا أرضها وعملوا على قضاء حوائج أهلها بما ينفعهم.