شيخ الأزهر.. رائد التجديد في العصر الحديث (1)
اسمه حسن بن محمد بن العطار. ولد بالقاهرة سنة 1182هـ، لأب مغربي الأصل، وكان والده عطَّارًا، فنُسِبَ إلى مهنة أبيه. نشأ في كنف والده الشيخ محمد كتن، وكان مُلِمًّا ببعض العلوم وعلى ثقافة جيِّدة، فكان يصطحب ابنه معه إلى حانوته ويعلِّمه البيع والشراء ويرسله في قضاء حاجاته.
ولكن الابن كان حادَّ الذكاء شغوفًا بالعلم، واسع الآمال، فكان يرى أتْرَابه يترددون على الأزهر لحفظ القرآن الكريم وللدراسة، فيتردد خِفْيَة إلى الأزهر لحفظ القرآن حتى وعاه في مدة قليلة، وعَلِمَ أبوه بأمره، فأعانه على التعليم، فالتحق بالأزهر، واجتهدَ في التحصيل على كبار المشايخ أمثال: الشيخ الأمير، والشيخ الصبان، وغيرهما من كبار العلماء، فظهر نبوغه وغزارة علمه وتنوع ثقافته في زمن قصير هيأه لتولي التدريس بالأزهر.
اقرأ ايضا: أفريقيا.. نمور بلا موارد (4)
عندما احتل الفرنسيون مصر عام 1798 ميلادية؛ كان العطار في ربيعه الثاني والثلاثين، ومثل كثير من العلماء، فر إلى أسيوط، ومكث في الصعيد نحو 18 شهرًا؛ ثم عاد إلى القاهرة بعد استتباب الأمن، واشتغل بالتدريس في الأزهر، واستغل اصطحاب نابليون بونابرت، خلال حملته على مصر، بعض علماء الطب والهندسة والفلك والرياضيات ومختلف العلوم الحديثة، فتعرف عليهم واطَّلع على كتبهم وتجاربهم وما معهم من آلات علمية وفلكية وهندسية، فأفاد منهم ووقف على أحدث ما وصلت إليه العلوم المدنية من تقدم في شتى مناحي العلم؛ كما أجاد اللغة الفرنسية إجادة تامة، وفي الوقت ذاته جعلهم يجيدون اللغة العربية التي كان يعلمها لهم بنفسه.
رحل الشيخ العطار -بعد جلاء الحملة الفرنسية عن مصر- إلى الحجاز، ومنها إلى تركيا، كما زار العديد من البلدان الأوروبية، وأقام مدة طويلة في بلدة تسمى "اشكو دره" تابعة لمنطقة "الأرناؤود" بألبانيا حيث تزوج هناك.
وفي عام 1815، عاد مرة أخرى إلى مصر بعد أن استقرت الأوضاع، وآلت ولايتها إلى محمد علي باشا، واشتغل بالتدريس في الأزهر، ولما ذاع صيته قرَّبه محمد علي إليه وجعله من أهل مشورته وخاصته، وقد كان الشيخ العطار، على قدر المسؤولية والثقة التي منحت له، فشرع في إصلاح التعليم، وكان يردد في سبيل تحقيق هذا الهدف السامي مقولته الشهيرة: "إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها، ومن سَمَتْ همته به إلى الإطلاع على غرائب المؤلفات، وعجائب المصنفات، انكشفت له حقائق كثيرة من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته إن كانت سليمة في رياض الفهوم".
اقرأ ايضا: الصحفي الثائر.. صاحب نشيد "بلادي"
كان متعمقًا في العلوم الدينية واللغوية، وكان عالما فلكيًّا ورياضيًّا، وكان إلى هذا أديبًا وشاعرًا معدودًا في طليعة الأدباء والشعراء في عصره، ولهذا عهد إليه بإنشاء جريدة الوقائع المصرية والإشراف على تحريرها، فكانت فرصة لإظهار آثاره النثرية وروائعه الشعرية، وكانت "الوقائع المصرية" منبرًا أعلن فوقه آراءه في الدعوة إلى التجديد في مناهج التربية والتعليم، وإلى مناداته بإدخال العلوم الحديثة، والعلوم المهجورة بالأزهر إلى مناهجه.
فطالب بدراسة الفلسفة، والجغرافيا، والتاريخ، والأدب، والعلوم الطبيعية، كما طالب بالرجوع إلى أمهات الكتب العلمية، وعدم الاقتصار على المتون والحواشي المتأخرة، كما نادى بالإفادة من أئمة العلماء القدماء، وعدم الاقتصار على العلماء المتأخرين القائمين بالتقليد والمحاكاة.
رأى أن الاجتهاد في العلوم الدينية "ضرورة"، من أجل إيجاد فقه معاصر يتواكب مع احتياجات الناس ومتطلباتهم العصرية، وهو ما جعل العلماء والمؤرخين يلقبونه بـ "إمام المجددين وقائد ركب المصلحين"، كما نادى بالانفتاح على العلوم العصرية، وهو ما أهَّله ليصبح رائد النهضة في العصر الحديث.
اقرأ ايضا: "مكرم عبيد".. دور وطني خالد
درَّس وألَّف في فنون شتى لم تكن مطروقة، ثم وجَّه تلاميذه إلى التجديد فيما يعالجونه من أبحاث ودراسات، ولو كانت تتناول موضوعات قديمة، فقد نجح في إدخال الدراسات الأدبية بالأزهر على يدي تلميذه محمد عياد الطنطاوي، وهو الذي أشار بإرسال تلميذه النجيب رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا، ووجهه وأرشده إلى استيعاب آثار الحضارة الفرنسية، وأشار عليه بتدوين كل ما يشاهده أو يعرفه أو يسمع عنه فكانت نتيجة التوجيهات أن ألَّف الطهطاوي كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز".
وقد أحبَّ العطار تلميذه الطهطاوي حبًّا كبيرًا؛ لما آنسه فيه من الذكاء والنجابة فقربه إليه وأحاطه برعايته، وهكذا كان الشيخ يرعى تلاميذه النابهين، ولم يكن يكتفي بالتوجيه والإرشاد، بل كان يعطي القدوة من نفسه، فاشتغل بالآداب شعرًا ونثرًا، وصنَّف فيها كثيرًا من روائع الشعر وفصول النثر والمقامات..
اقرأ ايضا: أفريقيا.. نمور بلا موارد (2)
وألَّف في المنطق والفلك والطب والطبيعة والكيمياء والهندسة، وقام بتدريس الجغرافيا والتاريخ بالأزهر وخارج الأزهر، وكان يتناول الموضوعات القديمة بأسلوب جديد مشوق، فقد لاحظ أن تفسير البيضاوي كاد يكون مهجورًا في الأزهر، فقام بقراءته والتعليق عليه بطريقة مشوقة جذبت إلى حلقته كثيرًا من العلماء والطلبة..
فكان إذا بدأ درسه ترك كبار العلماء حلقاتهم وأقبلوا عليه مستزيدين من علمه الفيَّاض، ودفع تلميذه الأديب محمد عياد الطنطاوي ليشرح "مقامات الحريري" بأسلوبه الأدبي البليغ، كما دفع تلميذه الطهطاوي لتدريس الحديث والسُّنَّة بطريق المحاضرات دون التقيد بكتاب خاص أو نص معروف، فكان ذلك مثار إعجاب العلماء.