"مكرم عبيد".. دور وطني خالد
لعب أقباط مصر، أدوارا خالدة في تاريخ الحركة الوطنية ضد الاستعمار، ومن أروع ما سجل التاريخ ما حدث عندما حاول المحتل الإنجليزي إشعال الخلاف، واللعب على الوتر الديني بين المسلمين والمسيحيين، فارتفع على الفور في سماء الوطن، من أقصاه إلى أدناه، شعار "الدين لله والوطن للجميع"..
وظهر "الهلال مع الصليب" في كل المواقف الوطنية، وشهد منبر الأزهر خطب الزعامات المصرية؛ مسيحية ومسلمة، وشهدت ساحات الكنائس اللحمة الوطنية في أهم مواقف المواجهة مع الاستعمار، ومن بعدها واجه المصريون مجتمعين المشروع الصهيوني، وامتزج الدم المصري من المسيحي والمسلم على أرض سيناء في حرب أكتوبر 1973 المجيدة.
يسجل التاريخ أنه حين اختلف "سعد زغلول" مع "عدلي يكن"، حول "مشروع ملنر"، الذي كان يفرض حماية بريطانية مقنعة على مصر، ويرهن إرادتها في يد المحتل، انفض السبعة المسلمون من حول "سعد"، ولم يبق معه متمسكًا بالحق الوطني غير "واصف غالي" و"سينوت حنا"، وعندما أنذر المحتل الإنجليزي سعد في 7 ديسمبر 1921 بضرورة إيقاف نشاطه أو النفي، لم يرفض الإنذار غير "مصطفى النحاس" و"ويصا واصف" و"سينوت حنا" و"واصف غالي" و"مكرم عبيد".
"مكرم عبيد" باشا ولد في 25 أكتوبر من عام 1889، ووحده يعتبر صفحة مشرقة في تاريخ مصر، فهو ينتسب إلى واحدة من أشهر العائلات المسيحية القبطية في محافظة قنا، ودرس القانون في جامعة إكسفورد، وكان واحدًا من أهم المفكرين المصريين المقربين من زعيم الوطنية المصرية "سعد زغلول" باشا.
يعد مكرم عبيد من أشهر الخطباء في التاريخ السياسي المصري الحديث، الذين لعبوا أدوارًا محورية لا تمحى في الحركة الوطنية المصرية وفي مقاومة الاحتلال.
وحاولت سلطة الاحتلال، في البداية، أن تقربه منها، فعينته سكرتيرًا خاصًّا للمستشار الإنجليزي لوزارة العدل، طوال مدة الحرب العالمية الأولى، لكنهم استغنوا عنه عندما كتب رسالة في معارضة المستشار الإنجليزي "برونيات"، شارحًا فيها مطالب الأمة المصرية وحقوقها، وغادر منصب سكرتير المستشار الإنجليزي لينضم إلى حزب الوفد في عام 1919..
ولما نُفي "سعد زغلول" ثار "مكرم عبيد"، وقام بإلقاء الخطب والمقالات، وانتهى به الأمر إلى القبض عليه ونفيه.
وكان المنفى فعلًا النقطة المحورية في حياته، فكان يرى في نفيه مع "سعد زغلول"، إضفاء لشرف الوطنية عليه وعلى زملائه، فقال: "لم نشعر في حياتنا أننا مصريون، عاشقون لمصر، بمقدار ما شعرنا في المنفى، ما أحسست طوال عمري أن الوطن قريب إلى قلبي وفكري إلا عندما أبعدوني عنه في سيشل، فكانت أداة الفصل هي أداة الوصل".
هذا الاندماج والتكامل الوطني هو الذي أجبر اللورد "كرومر" الجلاد البريطاني على أن يشهد أنه حكم مصر ربع قرن لا يستطيع أن يميز بين مسلم ومسيحي، إلا أن هذا يصلي في جامع، وذاك يصلي في كنيسة، وعندما توفي "سعد زغلول" أصبح "مصطفى النحاس" رئيسًا لحزب الوفد، و"مكرم عبيد" سكرتيرًا للحزب.
وفي عام 1928 عندما شكل "النحاس" باشا وزارته عيّن "مكرم" باشا وزيرًا للمواصلات، وفي عام 1935 أصبح سكرتيرا عاما لحزب الوفد، فكان من أبرز أعضاء الحزب والجبهة الوطنية وأكثرهم شعبية.
وبعد معاهدة 1936 عُين مكرم عبيد وزيرًا للمالية، ولكن أصدر رئيس الوزراء "مصطفى النحاس" باشا، أمرًا عسكريًا باعتقال "مكرم عبيد" باشا. وبالفعل تم اعتقاله بمقتضى قانون الطوارئ ووضع في السجن لخمسة أشهر. ثم أفرج عنه ليعود وزيرًا للمالية في أكتوبر 1944 في وزارة "أحمد ماهر" باشا، ثم وزارة "محمود النقراشي".
نذر "مكرم" باشا -الذي عمل بالمحاماة- وقته كلّه للدفاع عن المقبوض عليهم في تهم سياسية، ولا تزال أصداء مرافعاته معروفة في تاريخ المحاماة في مصر، وقد اُختير نقيبًا للمحامين ثلاث مرات، هو الذي قام بالدفاع عن الكاتب الكبير "عباس العقاد" حين اتهم بسب الذات الملكية.
كان مكرم عبيد خطيبًا بارعًا، حيث ساهم في ذلك إتقانه الشديد للغة لعربية، يُعد "مكرم عبيد" أيضًا هو صاحب فكرة النقابات العمالية وتكوينها، والواضع الأول لكادر العمال في مصر ووضع الحد الأدنى للأجور، وتوفير التأمين الاجتماعي لهم، وواضع نظام التسليف العقاري الوطني، كما أنه صاحب الأخذ بنظام الضريبة التصاعدية للدخل.
وقد لا يعرف كثيرون أن "مكرم عبيد" صاحب المقولة الشهيرة "إن مصر ليست وطنًا نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا"، و"مكرم" هو القائل أيضًا: "اللهم يا رب المسلمين والنصارى، اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن أنصارًا، واجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين".
وتوفى "مكرم" باشا في 5 يونيو من عام 1961 بعد فترة عطاء طويلة.