تحديث الخطاب المسيحي أيضا
يحصر البعض مطالبات "تحديث أو تطوير الخطاب الديني" فيما يخص الدين الإسلامى فقط، ويفهم البعض أن الخطاب الإسلامي هو المعني بالتجديد بعد ظهور داعش وحركات العنف الديني وجماعات التكفير وتوغلها بهذا الشكل.. غير أن التجديد أو التحديث يجب أن يشمل الجميع وخاصة الخطاب الديني المسيحي لتسير تلك المحاولات بشكل متوازٍ يناسب العصر ولا يُخرج المرء عن دينه مع ما يستجد من أسئلة.
وبالطبع، الدين يبقى دينا كنصوص داخل الكتب ولكن حين ينتقل إلى الناس ينتقل من خلال خطاب فالدين ثابت بقواعده وطقوسه ومعتقداته لكن فهم النص وتأويله يختلف وما كان يصلح للقرن الرابع لا يصلح للقرن الحالي لأن الأجيال تختلف والجيل تشكل ذهنه من معطيات اللحظة والمرحلة، كان مجتمعا أبويا زراعيا ومجتمعا إقطاعيا فى مرحلة من المراحل ثم مجتمعا صناعيا ثم الثورة الرقمية التى قلبت كل الموازين وكل المعطيات التى جاءت بها الثورة الصناعية والتكنولوجية.
ولهذا قام الفاتيكان والكنائس الكاثوليكية التابعة بمحاولات كثيرة للتجديد، آخرها ما جرى فى المجمع الفاتيكانى الثانى الذى قاده البابا يوحنا الثالث والعشرون فى الفترة من 1962 وحتى 1965 وهو المجمع الذى شهدت الكنيسة طفرة كبيرة على يديه، بما يشبه الثورة في تجديد الخطاب الديني دفعت الكنائس الكاثوليكية إلى التخلى عن بعض الأفكار والتعاليم الخاطئة، مثل ما كان قبلها من معتقدات..
اقرأ أيضا: كلهم يحاربون باسم الرب
كأن يرى الكاثوليك أنهم فقط من سيتمتعون بملكوت السماء ويدخلون الجنة بينما يذهب الباقون إلى الجحيم.. وقبل الفاتيكان بدأت رحلة التحديث مع البابا كيرلس الخامس البابا رقم '112' الملقب بأبو الإصلاح الكنسي في مصر، الذي أنشأ مدرسة الرهبان ومدارس البنات ووضع أسس برامج تثقيف الكهنة مع إنشاء الإكليريكية، وبقي في كرسي البابوية خمسين عاما، وكان جزءا حيا من تاريخ مصر فهو أيضًا من رعى كنيسة إثيوبيا كي تبقي جزءًا من كنيسة مصر، ومنحها حقها في التصويت على كرسي بابا مصر على اعتبار أنهم جزء من الكنيسة الأم.
وشهدت علاقات مصر الدينية مع إثيوبيا نهضة كبرى وهو مؤسس مدرسة الأقباط الكبري التي لا تزال موجودة في حي الأزبكية، وهو صاحب اقتراح دخول الأقباط للجيش المصري دون تمييز، وهو من طلب إلغاء قانون الذمية، وهو من شارك مع الخبراء في وضع أسس حدود مصر مع إثيوبيا، عندما كانت حدود مصر تصل لمكان سد النهضة الحالي عام 1856..
اقرأ أيضا : المهم السيستم!
وهو من حصل علي حكم ملكية مصر النهائية لدير السلطان بالقدس حتي الآن وهو من وضع أساس الكنيسة المصرية بالخرطوم وعاصر ثورة 1919 وكان صاحب خطاب ديني متطور يناسب عصره، خصوصا لائحة أمور الزواج والطلاق وتسمى لائحة 38 والتى تعد أفضل وثيقة متجددة تمثل وتحل مشكلات الأقباط، والتي يتمني الأقباط عودتها بعد أن ألغيت عام 2008.
وعلى منهجه كان يسير البابا كيرلس السادس الذي وضع منهجا متطورا يؤكد أن البابا جزء من مؤسسات الدولة بشكل رسمي، وجاء عصر البابا شنودة الثالث ويمثل التيار المحافظ، ثم تولي البابا تواضروس الثاني منصب بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وهو يحاول حل المشكلات التي ورثها، فلا هو يستطيع إعادة لائحة 38 ولا يستطيع غض البصر عن المشكلات القائمة فعلا.
ومن هنا تأتي الحاجة لتحديث الخطاب الديني والفقه والفكر اللاهوتي رحمة بالمجتمع، وكما في الإسلام هناك معني عميق لسماحة النص وكذلك في المسيحية فإن النصوص قابلة للفهم والتأويل، ولكن حدث ما يسمي بجمود التفسير وصار التفسير مقدسًا كالنص، رغم أن النص يحتمل أكثر من قراءة وفهم حسب المدارس المتعددة وتفسير النص محاولة بشرية، وبالتالي لا توجد قراءة شرعية وحيدة للنص، وهو ما أوجد كنائس متعددة، ومذاهب متعددة في الإسلام.
كما أن تصريحات الفاتيكان مؤخرا تشكل علامة متميزة فى علاقة الكنيسة مع العالم الإسلامى والإسلام بشكل عام، لأنه أول مرة يحدد شكل هذه العلاقة على نحو إيجابى مجافٍ ومنافٍ للكثير من الخلافات والرؤى السابقة.
اقرأ ايضا: مولانا الوزير
فلأول مرة عبر التاريخ تعلن الكنيسة الكاثوليكية عن موقفها إزاء المبادئ الإسلامية الأساسية، فى وضوح ودقة، فهى تبدى احترامها للمسلمين، إذ تعترف أن إله القرآن هو حقا الإله الواحد الأحد القيوم الرحمن القدير فاطر السماء والأرض، وليس هو إله الفلاسفة بل إله إبراهيم، وإله الوحى الذى كلم البشر.
ويشير النص إلى تسليم المسلمين لأحكام الله الخفية وقضائه وإن كان المسلمون لا يقرون «ألوهية» المسيح، إلا أنهم يجلونه نبيا ويكرمون أمه مريم العذراء، ويعترفون بالبعث ويوم الحساب والآخرة، وفى سلوكهم العملى يجتهدون لاكتساب مكارم الأخلاق، وكلها محاولات واجتهادات لتحديث الخطاب المسيحي، وكانت وثيقة التعايش في مؤتمر أبوظبي ترجمة لتلك الاجتهادات.