رئيس التحرير
عصام كامل

رجل لم يخاصم أحدا

أن تتوافق مع ذاتك في رحلة العمر الطويلة، ولاتخالف هذه المصالحة أبدا أمر ليس بالميسور، وأن تلتزم حيادا نزيها في فترات عصيبة وأنت تحكم بلدا قديما قدم الحضارات التليدة فهذا أمر من المحال، وأن تلزم نفسك وشعبك قيما أصيلة وسط عالم يموج بالفوضى فهذا أمر ليس سهلا، وأن تنأى بنفسك ووطنك عن الصغائر وترسم طريقا قويما يجنبك وأهلك ويلات الذوبان في الغموض الجارف والقادم من كل حدب وصوب فهذه هي الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء.

 

فعلها مواطن عربى أصيل اسمه قابوس بن سعيد سلطان سلطنة عمان، جاء إلى السلطة في بداية السبعينيات شابا يافعا، حالما، مؤمنا بقدرات شعبه وبلاده، وبدأ منذ اليوم الأول تجربة نهضوية التزمت مجموعة من القيم العربية الأصيلة، لم تكن البلاد على ما يرام، وكانت الفوضي تسرى في بدن الوطن الملقى على واحدة من أهم مواقع الدنيا، تتخطفها الصراعات وتنشب المعارضة بأظافرها في الجسد المستسلم لكل من هب ودب، فأعاد المعارضين من خارج الوطن إلى بلادهم، وطالبهم بالمشاركة وفتح المجال للمصالحة، والبدء في بناء تجربة نهضوية تنقذ البلاد مما هي فيه..

 

اقرأ أيضا: التسامح.. سلطنة عمان نموذجًا

 

استقدم خبرات من كل مكان في العالم، ووضع الإنسان العمانى في قلب التجربة، ابتنى المدارس والجامعات، وقرر أن يعتمد على موارده المحدودة، بالعقل والترشيد استطاع في سنوات قليلة أن ينهض من حالة السبات، ومضى قدما نحو تحقيق الغاية،كانت غايته بناء الإنسان فكان له ما أراد.

 

في كل عام كنا نرى عمان جديدة، بنايات تصل الحاضر بالماضى،معامل ومصانع ومدارس وهوية حاضرة في كل ملمح من ملامح البناء الجديد، شوارع تنبض بالحياة، وشواطئ لاتزال تحتفظ بسفن كانت قديما أوائل إطلالات الإنسان العمانى على العالم عندما ركب البحر وروضه، وقفز إلى عوالم كانت في ذلك الزمان بعيدة على من لا يقدرون على ركوب البحر مثلما فعلها العمانيون القدامى.

 

اقرأ أيضا: السيسي في بلاد التسامح

 

لم يكن محيط التجربة هادئا، عواصف أهالت الغبار على المنطقة برمتها، فكانت نعمة البترول نقمة على بلاد النفط التي تكالبت عليها الأمم، فكان السلطان قابوس بن سعيد قبطانا حكيما في إدارته لدفة السفينة، التي تلاطمتها الأمواج العاتية وهو كان بين تلك الظروف العصيبة متزنا، قويا، قادرا على المضي قدما ببلاده ووسط محيطه، فنسج بإرادة منفردة خيوط الحياد الشريف، ولم يخاصم أحدا، بل فتح قنواته الخارجية على الجميع، وبنفس المقياس وبذات الحساسية المفرطة إزاء الآخر.

 

استطاع أن يحول عاصمة بلاده إلى واحة للسلام، ومارس دور الوسيط النزيه بمهارة يحسد عليها، خاصم العرب-كل العرب- قلبهم النابض مصر إلا هو لم يغلق سفارته بالقاهرة عند القطيعة العربية، وكان فارسا نبيلا بإعلان موقفه من مصر، بل ودعمها وقت الحصار فصار أيقونة عظيمة في وجدان الشعب المصرى كله، وعندما خرج العرب من بغداد لم يخرج هو وظلت سفارته تمارس ذات الدور في بغداد حتى عاد العرب كلهم إليها، وفعل نفس الأمر عند الخلاف الخليجى القطرى، ظلت سفارته بالدوحة املا في عودة الوئام إلى الخليج كما كان.

 

اقرأ أيضا :أحمد ابو بكر.. تكريم رحلة العمر

 

حافظ السلطان قابوس بن سعيد على علاقات وطيدة بالجارة إيران، وظل يدعو للحوار الخليجي- الإيرانى، ليجنب المنطقة ويلات صراع لن يكسب منه أحد، وحمي بلاده من ويلات التدحرج تحت عجلات الصراع الذي ينهش استقرار المنطقة برمتها، ولم يغفل طوال رحلته غايته وهدفه الأساسي، فاستطاع خلال ٤٩ سنة هي عمر تجربته النهضوية أن يحافظ على هوية بلاده، ودار بكل تفاصيل العملية التنموية حول الإنسان العمانى، والسؤال: لماذا خيم الحزن على العواصم العربية بخبر رحيله؟

 

اقرأ أيضا: حكاية التغيير في مصر

 

التجارب الناجحة تترك أثرا في الوجدان، ولأن السلطان قابوس بن سعيد كان صادقا مع نفسه ومع شعبه، ومتصالحا طوال الوقت مع تجربته التي بنيت على الاستقلال في القرار، كان هدفه احترام إرادة الآخر وعدم الزج ببلاده في صراعات أثبتت الأيام أن الكاسب فيها خاسر..رحم الله هذا القائد الحكيم ووفق هيثم بن طارق آل سعيد السلطان الجديد لاستكمال مسيرة النهضة العمانية التي بدأها وأرسى دعائمها رجل لم يخاصم أحدا!!  

الجريدة الرسمية