التسامح.. سلطنة عمان نموذجًا
في كل مرة تعانق فيها عجلات الطائرة التي تقلنا إلى مطار «مسقط الدولي» بالعاصمة العمانية مسقط، أود لو تخلصت من إجراءات الدخول سريعا؛ لأضع حقائبي بفندق إنتركونتننتال العبقري، وأنتقل سريعا إلى سوق «مطرح القديم».. على ضفاف الخليج وفي واحد من أقدم المواقع العمانية، أتصفح وجوه البشر الطيبة دون مرافق يشرح لي ما يمكن فهمه بالسليقة.. على مقربة كانت البيارق في إحدى زياراتي ترفرف أمام مسجد يطل على الخليج مباشرة.
شيعة يحتفلون بسلام بمولد الحسين.. لا تستطيع أن ترى إلا صورة راقية للحظة تسامح ديني أكبر من كل المفردات التي يستطيع أن يكتبها صحفي زائر مثلي.. والتسامح في سلطنة عمان قدر ومكتوب في صفحات تاريخ هذا البلد، الذي يرسم ملامح الحب في وطن عربي يزخر بكل صنوف التمييز والتطرف.. عمان نموذج لا يمكن أن تخطئه العين المجردة من أول وهلة.
وللتسامح الديني في السلطنة قصص تاريخية فرضها الموقع على أهلها، فرضا أصبح جزءا من الشخصية العمانية.. هنا يعيش المسلمون «سنة وأباضية وشيعة» دون أن ترى فرقا.. تستطيع أن تدخل أي مسجد تصلي كما تشاء.. لن تكون غريبا أو مدهشا، ولن تكون مرفوضا أو منبوذا أو تحت الميكروسكوب.. هنا بيوت لعبادة المسيحيين والهندوس والسيخ والبوذيين.. هنا يعيش يهود أحرار فيما يعتقدون.. هنا مواطنون عمانيون عمانيتهم هي عنوانهم الأبرز.. المواطنة هي الوعاء الأبدي الحافظ لاستقرار هذا البلد الزاخر بكل صنوف التعايش والحب والتسامح.
يفخر العمانيون بحديث شريف، جاء في صحيح مسلم في باب فضائل أهل عمان برقم 2544، عن أبي برزة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلا إلى حي من أحياء العرب فسبوه وضربوه، فجاء إلى رسول الله فأخبره، فقال رسول الله: "لو أن أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك".. وهو الحديث الذي تتفاخر به الأجيال العمانية الواحد تلو الآخر، كدليل على تسامح أهل عمان الذين أثبتت الحقيقة التي لا يمكن التشكيك فيها، أن دخول أهل عمان إلى الدين الجديد كان بدون قتال، ويدل على ذلك الخطبة التي ألقاها الخليفة الأول أبو بكر، لوفد أهل عمان الذي جاء إلى المدينة المنورة لتهنئته بالخلافة، وكذلك إعلان البيعة له فقد قال: "معشر أهل عُمان إنكم أسلمتم لله طوعًا ولم يطأ رسول الله ساحتكم بخف ولا حافر، ولا جشمتموه كما جشمه غيركم من العرب، ولم ترموا بفرقة ولا تشتت شمل، فجمع الله على الخير شملكم".. هذا هو التاريخ فماذا عن الواقع؟
تزخر عمان بألوان طيف اجتماعية وعرقية ودينية غاية في التعقيد، لم تسلم من التفكك إلا بفضل النموذج الذي تتبناه هذه الأرض منذ فجر التاريخ.. تقول الوقائع: إن السلطان الشاب قابوس بن سعيد، تقلد موقعه كسلطان للبلاد وسط ظروف أكثر تعقيدا؛ حيث كانت الدولة تعيش حالة صراع مريرة بين إمامة تسكن الجمود وترفض الانفتاح، وسلطنة تسعى للأخذ بأسباب التقدم.. ووسط حالة صراع سياسي يكاد يعصف بوحدة الوطن بين جماعات ترغب بالانفصال بــ«ظفار»، بعيدا عن جسد السلطنة رافضة كل صنوف الجمود.
سعى السلطان إلى توحيد الصف منطلقا من عمقه العربي، ومعتمدا على دعم أردني وسعودي وإيراني، فانطلق في معركته عام ١٩٧٠م، ليصل إلى قمة انتصاره السياسي والعسكري عام ١٩٧٥م، ورغم انتصاره فإنه تبنى منذ البداية طريق التسامح والعفو الشامل عن خصومه، حتى دمج كل المعارضين ليصبحوا جزءا من الحكم لدرجة تولية بعضهم وإلى اليوم مسئوليات جسام.
وأثبت السلطان الشاب، أن الحب وحده قادر على بناء الأوطان، فانتهج طريق التسامح الديني، ورغم أن السلطنة تتبنى المذهب الأباضي وهو المذهب الإسلامي الثامن، إلا أن الشيعة والسنة بها لهم نفس الحقوق، وتتعامل وزارة الأوقاف مع الجميع بمن فيهم المسيحيون والهندوس والسيخ، بذات المنطق المتسامح، وهو ذاته المنهج القديم الذي انطلق منه المفهوم العماني.
تقول وقائع التاريخ: إن الإمبراطورية العمانية في قمة ازدهارها اقتصاديا وسياسيا، في فترة حكم السيد سعيد بن سلطان (1807 – 1856)، كان أول سفير عربي إلى الولايات المتحدة الأمريكية في رحلة السفينة سلطانة الشهيرة إلى نيويورك (1840)، هو أحمد بن النعمان الكعبي، وكان شيعي المذهب مما يدل وبشكل واضح، على أن عمان عرفت التسامح والتعددية قبل أن تعرفها دول أخرى في أوربا، بفضل فلاسفة التنوير، إضافة إلى ذلك فإن العالم اللغوي العماني الخليل بن أحمد الفراهيدي، يمثل حالة فريدة من نوعها في التعايش المذهبي في عمان، فهناك ثلاثة مذاهب موجودة حاليا، هي الأباضية والسنة والشيعة تدعي انتساب هذا العالم الجليل إليها، ويحتل مكانة خاصة ومتميزة عند أتباع المذاهب الثلاثة.
وبعيدا عن البحث عن انتمائه، فإنه يبقى صورة مثالية للمواطنة التي تتباهى بإنجازات وطنها بعيدا عن المذهب أو الدين أو اللون.
هذا النموذج هو الذي يحيا الآن وسط حالة الهياج الديني والتعصب المذهبي التي يغرق فيها الوطن العربي كله، وهو ما يفرض على الجميع الانتباه.. فنحن لسنا بحاجة إلى استيراد نموذج غربي للتسامح.. فهنا وفي بيئتنا العربية ولد النموذج المثالي، وأثبت أنه وحده القادر على حماية الأوطان، من نار لن تترك أخضر أو يابسا دون أن تطاله.
وبعيدا عن التاريخ، فإن الواقع هو الذي يشرح للعامة والخاصة لماذا تستطيع أن تتمسك السلطنة بهويتها العربية وعلاقاتها القوية بإيران، وتصبح واحدة من أهم مفردات الحل في العديد من الأزمات العالمية من بينها الملف النووي الإيراني، ولن يكون آخرها ملف اليمن!!
من حق العمانيين أن يحتفلوا بعيد نهضتهم الـ45، ومن حقهم أن يفخروا بأن بناءهم من التسامح هو الأكثر صمودا في ظل التوترات التي تهدد المنطقة كلها.