كريسماس بطعم التسامح
كل عام ومصر وشعبها بخير، عبارة نكررها مع مطلع عام جديد؛ لكن كثيرين بيننا يطبقونها بمواقف أكثر تعبيرا عما يحملونه لأشقائهم فى هذا الوطن من محبة.
مواقف تجمعني بهؤلاء سنويا؛ بينما نقف سويا وأطفالنا أمام كنيسة العذراء بالزيتون؛ شمال العاصمة، فى أعياد شتى للإخوة المسيحيين؛ نوزع الحلوى والشيكولاتة وفطير الملاك على روادها من الأطفال والنساء، نعلم أبناءنا معنى حقيقيا للإسلام رسالة التسامح والإخاء.
على أبواب كنيسة العذراء توضع خطة صناعة البهجة من طرفنا؛ ويتفاعل معها كل من حولنا على قدر سعتهم، فهذا المعلم النبيل نبيل محروس قائد مؤسسة "ازرع شجرة" يستدعي رفاقه لنشر اللون الأخضر بمحيط مبنى الكنيسة وإزالة المخلفات، ومعه المهندس الشاب المتمرد على نعومة الأيدي أحمد أبو ليلة يجمع ما يليق بهدايا الأطفال البسيطة المبهجة، وآخرون من مختلف أرقى المهن والتخصصات يلبسون ثياب التطوع الوطني فى خدمة مشهد احتفالي لا يغيب عن ترانيمه مسلمون.
داخل الكنيسة؛ تستطيع زيارة ومطالعة مالا يبتعد بك عن أصالة هذا المجتمع رغم محنته المفتعلة، مقتنيات الراحل البابا شنودة الثالث الشخصية؛ تزينها بطاقة عضويته بنقابة الصحفيين؛ وأدواته الشخصية وبعض أوراقه ووصاياه، بينما ينشغل متطوعون داخل أسوار المبنى بتقديم منتجات لرواد الكنيسة من ثمار مشروعات خيرية.
اقرأ ايضا: تحرير عقود الزواج هل يصبح حلا؟
مفهوم التسامح وقبول الآخر عرفه المعاصرون عن ابن رشد؛ وصدره لنا الغرب فى صور العهود الدولية؛ وطبقته مجتمعاتنا المحلية بعفوية شعبنا دون تنظير، ودون ترويج لمصطلح مستحدث مؤخرا يتبناه فلاسفة عنوانه "دين حقوق الإنسان"؛ تفاديا لما اصطنعه أهل السياسة الدولية من صراعات بين أهل الأديان.
أذكر أن فيلسوفا معاصرا وأستاذا بجامعة عين شمس؛ مسيحيا تخصص في الفلسفة الإسلامية؛ هو الدكتور عصام عبد الله إسكندر؛ فاجأني قبل ٢٠ سنة؛ بأن خاله بالرضاعة مسلم؛ وهو الشاعر الكبير الراحل محمد عفيفى مطر؛ الذى أرضعته الخالة رومة زوجة العم حليم حلاق الصحة بقرية رملة الأنجب بالمنوفية، بين خمس من بناتها، وهى الرواية التى أكدها لى أقرباء من مشايخ القرية التى عرفت وطبقت مفهوم التسامح مبكرا ودون توجيه أو وصاية أنظمة عليها.
كم هى راقية؛ قيمة التسامح؛ التى جعلت من أستاذ الفلسفة المسيحى محبوبا بين طلابه بدرجة مثيرة للغيرة، حتى إذا ما اتخذت الجامعة خطوات نحو تقليص دعم الكتاب؛ كانت مؤلفات الدكتور إسكندر توزع مجانا كهدايا على طلابه دون تمييز.
واقرأ ايضا: تشريع عقابى يؤجج الصراع الأسرى
مشاهد التعبير عن محبة الإخوة المسيحيين لأشقائهم المسلمين كثيرة أيضا، فلا تتعجب حينما ترى أطفال حارات دائرة المطرية؛ التى شهدت عنفا مسلحا ضد الدولة والمجتمع بعد الثلاثين من يونيو؛ يحملون فوانيس رمضان وقد وزعها عليهم القس بولا فؤاد رياض برفقة الشاب المتمرد على بروتوكولات الاحتفالات جورج جميل، مكتوبا عليها عبارات "الله محبة" و "محمد رسول الله"، بينما موائد الرحمن يقف على خدمتها شباب من الكنيسة.
صناعة العنف فى مجتمعات الأزمات مسألة صعبة؛ ولا يمكن لروادها التغلب على مواطنيها، وتنمية وتغليب مفهوم التسامح أسهل مما نتخيل؛ خاصة وأن المختلف دينيا أو عرقيا لا يمثل لنا "الآخر" داخل وطننا، وأدوات القوة الناعمة تملكها مؤسساتنا الثقافية وقياداتنا المجتمعية، ولا ينقصها سوى الدعم الأكبر لمبادرات طوعية لإعادة تأكيد هذا التسامح بين أجيال قادمة.
كل عام ومصر وشعبها بخير؛ كريسماس سعيد على كل مسيحي مصري؛ ومسلم أيضا.