تشريع عقابي يؤجج الصراع الأسري
تصر الحكومة، ومعها البرلمان، على تجاهل كوارث البرلمانات السابقة التي ابتلتنا بقانون الأحوال الشخصية والأسرة بتعديلاته المتعاقبة، واختلاق المزيد من أسباب الصراع الأسري، وصولا إلى توليد قناعات لدى كثيرين من ضحاياه بتحقيق استفادة فوقية منه.
وبينما يتحدث رئيس البرلمان عن مخاطبة الحكومة بشأن تقديمها مشروع قانون جديد للأحوال الشخصية خلال شهرين؛ وإلا بدأ مجلسه في مناقشة مقترحات مشروعات القوانين المقدمة من بعض النواب، نجد وزارة مهمتها تحقيق "التضامن الاجتماعي"؛ تطلب من النواب تعديلا تشريعيا عقابيا يغلظ عقوبة حرمان الطفل من حقه في نفقته؛ مع مساواة متعمدة بين الأب المتعثر والذكر الممتنع عمدا عن منح طفله حقه.
التعديل التشريعي العقابي؛ ينذر المجتمع بطور جديد من الصراع، مع إصرار الحكومة تحت ضغط كيانات نسوية، على ترقيع قوانين عقابية وفقط؛ دون تحرك من البرلمان للتعامل الشامل مع قوانين الأسرة والطفل كافة، والتي أثبتت تطبيقاتها استحالة تحقيق مشروع زواج مستقر مستقبلا، وتسببت في إحجام كثيرين عنه؛ وحولت محاكم الأسرة إلى بنايات عقابية في نظر مترددين عليها؛ وهى التي وجدت لتحقيق العدل.
نظرت الحكومة؛ ومعها البرلمان المعني بمناقشة التعديل العقابي؛ إلى المقترح على أنه مكتسب جديد يضاف إلى رصيد مكتسبات المرأة المطلقة، كما يروج إعلام غير واع، ويتمثل في الحبس والغرامة وإيقاف الخدمات الإلكترونية للممتنع عن سداد النفقات، دون استثناء المتعثر، رغم أن كثيرا من حالات الطلاق المتزايدة مؤخرا مرجعها العامل الاقتصادى.
بداية؛ لا اعترف برجولة ممتنع عن الإنفاق على طفل يحمل اسمه؛ رغم أن كثيرين من أبناء الشقاق باتوا منتسبين اسما لهؤلاء بفعل قانون قاطع للأرحام أو لتعنت الحاضن دون رادع حقيقي، لكن دائما ما كان تأييدي للبدائل العقابية الأوقع مقترنا بتحقيق مطالب مجتمعية واسعة بإصلاح تشريعي يضمن رعاية مشتركة ومعايشة مكتملة للطفل بين أبويه وأهليتهما دون تمييز بعد الطلاق؛ ونسف قانون بات مدمرا لتلك العلاقات حتى خلال سنوات "المناورات" السابقة على وقوع الشقاق.
وكثيرا ما كررت؛ أن حقوق الطفل لن يتحصل عليها كاملة بعد انفصال والديه طالما استبعد المشرع فكرة أن تحل الدولة؛ ممثلة في القاضي؛ طرفا مدافعا عنه وحقوقه لدى الأبوين، في إطار تشريع جديد تعتمد فلسفته مبدأ الرعاية المشتركة والمعايشة له بينهما وأهليتهما؛ كحق أصيل تقره المواثيق الدولية لحقوق الطفل وتنكره القوانين الحالية.
أسوأ ما في التعديل التشريعي المزمع مناقشته؛ تحويل رجال متعثرين إلى مجرمين ملاحقين دون تفعيل حقيقي لنظام تأمين اجتماعي يوقف صدمات مادية متكررة تضرب الأسر المصرية؛ والتي تحولت معها فئات بطبقات متوسطة إلى الحدود الأدنى من خط الفقر؛ وبين هؤلاء أصحاب مهن وعمالة بقطاعات أضيرت اقتصادياتها جراء ما شهدته البلاد خلال العقدين الأخيرين من أزمات وسوء إدارة موارد.
وإذا كانت ممثلة الحكومة في هذا التعديل التشريعي؛ أرادت أن تلعب دور بالونة الاختبار للمجتمع؛ وبخاصة الرجال؛ قبل مناقشة مشروع قانون جديد للأحوال الشخصية؛ تريده كيانات نسوية وجماعات ضغط محققا لمكاسب جديدة للمرأة تتفق ومفاهيم القائمات عليها وحدهن، فلا يليق بالبرلمان أن يعدم وسيلة بشكل طوعي؛ للبحث صراحة عن مخرج تشريعي من كارثة مجتمعية سببها الأول القانون الحالي.
وأمام هذا التعديل العقابي؛ أذكر الحكومة؛ بأنها حينما استيقظت بعد يناير ٢٠١١ على كارثة استحواذ العشرات من رجال أعمال زمن مبارك على ملايين الأفدنة من أراضي الاستصلاح الزراعي مقابل الملاليم؛ وتربحوا المليارات من بناء منتجعات عليها بدلا من استزراعها، لم تلجأ بعد قرارات قضائية لغير إجراءات المنع من السفر والتحفظ على أموالهم مؤقتا؛ قبل قطع شوط جديد معهم في التفاوض حول طرق سداد غرامات مقررة على مخالفاتهم.
لا أطلب هنا مساواة في إجراءات العقاب بين من أهدروا مشروع مصر الزراعي ومن حرموا أطفالهم لقمة وكسوة، فبناء طفل بوجهة نظري أصعب من بناء مدينة، لكنني أجد نفسي عاجزا عن فهم عقول إدارة وتشريع أعدمت أفكارا ذكية مستحدثة في ملاحقة الممتنعين عن إطعام وكساء وتعليم أطفالهم؛ عن سعة؛ ودعم وتأهيل المتعثرين منهم.
كما أتعجب من قدرة هذه العقول على إقناع من حولها باستمرار وبقاء قوة مادية أو معنوية لرجل سلبوا أبوته وولايته بتشريع جائر؛ ثم يطالبونه أن يظل قادرا على العمل والكسب لأعلى حد؛ أو يظل مستقبلا جزءا من مشروعاتهم التي يتحدثون عنها لهذا الوطن.
دون استعادة رجال مصر أرباب الأسر؛ ولو انهار مشروعها بالطلاق؛ لن نستعيد حقا لطفل، وبتشريعات عقابية قاصرة ستزيد العلاقات العائلية توترا واشتعالا بين أطراف الشقاق، وسيتفنن كثيرون في التحايل على التشريع العقابي؛ بإخفاء معلومات وبيانات وسحب أموال من أوعية ادخارية؛ وربما ينسحب قطاع غير قليل من المشاركة السياسية قهرا أو جهرا بفعل حرمان من خدمات إلكترونية وإيقافها بقرارات وزراء مختصين يفوضهم القانون لاحقا.
مشروع الأسرة المتهالك لا يحتمل مزيدا من محاولات القفز على حطام البيوت الخربة يا أهل التشريع والرقابة والإدارة، بل يحتاج إلى إعادة بناء للإنسان والمكان في زمان مختلف، وليكن الحوار المتعقل مقدما على العقاب والتربص، ولتحذروا خطورة تقسيم المصريين بالتشريعات بين رجال ونساء، وقد فشل الأعداء في تقسيمهم على أساس الدين أو المعتقد أو اللهجة أو اللون.