يا حبيبي
لم يتجاوز عمرى السابعة عشر وقتها، كنت أسهر للمذاكرة، ثم استغرق في النوم، تعبا من كثرة المناهج والتجول بينها. أمام منزلنا القديم في حي عين شمس، كان مسجد الصحابة صغير المساحة، وعيت على التواجد به منذ نعومة أظفارى، إذ كان الأقرب والأحب إلى أبي. كنت ألمس فيه راحة النفس، وتعلق القلب، إذ تعلمت بملحقته أول حروف اللغة وحفظت فيه أول آية من الكتاب الكريم.
في تلك الليلة السعيدة، خلدت إلى النوم، واستغرقت، حتى زارنى في منامى ضيفًا عزيزًا غاليًا، لم يخطر على البال يوما أن أراه متجسدا أمام ناظرى.
وكأنى أدخل إلى مسجد الصحابة فجرًا، كان المكان خاويًا من المصلين، إضاءة المنبر موقدة ولكن خافتة، وفى هذا المشهد، رجل يتوسط صحن المسجد ويتكئ على عمود مواجه للقبلة، مستندا بيده على ركبته اليمنى المرتفعة قليلا عن الأرض، يرتدى جلبابًا أبيض، ويغطى رأسه شال من هذا اللون منسدلا على جانبي وجهه، الذي تبرز منه لحية سوداء مهذبة، تعكس بياض الوجه المشرق.
بادرته بإلقاء السلام، فأشار إلى أن أجلس، ثم نظر إلى في مودة وهو يرد التحية.
سألته: «من أنت؟».
أجابني في صوت هادئ: «أنا محمد أنا رسولك».
«صلى عليك الله يا سيدي يا رسول الله»، «صلى عليك الله يا سيدي يا رسول الله»، رددتها مرات عديدة وكأنى مستيقظا، ويبدو أن صوتى ارتفع بالذكر، خارج إطار النوم، ووصل إلى مسامع أمى، فأيقظتنى وهى تردد «ألف صلاة وسلام عليك يا نبي»، «ألف صلاة وسلام عليك يا نبي».
حالة انتشاء عارمة، أجبت بها سؤال أمى: «شفت إيه يا بنى؟».
«شفت الرسول يا أمى، شفت الرسول في المنام، قابلنى في الجامع وسلم عليا».
احتضنتنى فرحًا بهذا الزائر الغالى على القلب، مطالبة إياى بعدم إخبار أحد، إذ كان مترسخا في اعتقادها أن تلك الرؤيا الطيبة مدعاة لحسد الآخرين على تلك النعمة، وهى حقًا نعمة وفرحة تنشرح بها الصدور، وتطمئن بها القلوب، وتأنس بها النفوس، يأمن بها الخائف، ويسكن بها المضطرب.
دمت في حياتنا معلمًا وقائدًا وملهمًا وقدوة، شفيعا، قريبا، حبيبا، يوم تدنو الشمس من الرءوس، فيقول كلُ نفسي نفسي، فتقول أنت «أمتي أمتي».
*يقول محمد بن سعيد البوصيري في قصيدته "البردة":
محمد سيد الكونين والثقليــن والفريقين من عرب ومن عجمِ
نبينا الآمرُ الناهي فلا أحدٌ أبر في قولِ لا منه ولا نعم
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته لكل هولٍ من الأهوال مقتحم
دعا إلى الله فالمستمسكون به مستمسكون بحبلٍ غير منفصم
فاق النبيين في خلقٍ وفي خُلُقٍ ولم يدانوه في علمٍ ولا كرم
وكلهم من رسول الله ملتمسٌ غرفًا من البحر أو رشفًا من الديمِ
*ويقول أمير الشعراء أحمد شوقى في قصيدة نهج البردة:
لزمت باب أمير الأنبياء.. ومن يمسك بمفتاح باب الله يغتنم
فكلّ فضل وإحسان وعارفة.. ما بين مستلم منه وملتزم
علّقت من مدحه حبلًا أعزّ به.. في يوم لا عزّ بالأنساب واللحم
محمّد صفوة الباري ورحمته.. وبغية الله من خلق ومن نسم
وصاحب الحوض يوم الرسل سائلة.. متى الورود وجبريل الأمين ظمي
سناؤه وسناه الشمس طالعةً.. فالجرم في فلك والضوء في علم
*ولطالما أشرقت أرواحنا صباحا مع ابتهال الشيخ "سيد النقشبندى" وهو يردد:
لما بدا في الأفق نورُ مُحَمَّدٍ كالبدر في الإشراق عند كماله
نشر السلام على البرية كلها وأعاد فيها الأمن بعد زواله.
صلى عليك الله يا سيد الخلق، سيدي يا رسول الله.