السيرة الذاتية لـ«دبشة»
قبل مائتي عام بالتمام والكمال، اقتلعتني يد عفية من رحم صخرة كبيرة ظلت تنزف حتى تفتت. تلك اليد لم تُحمل نفسها عناء تشذيبي وتهذيبي، فلم يكن يعنيها من الأمر إلا أن أكون صلبا قويا، قبل أن تلقيني إلى فم حفرة عميقة ابتلعتني دون اكتراث لوضعي وهيئتي، ثم أهالت عليّ التراب كجثة طازجة لم تبرد الدماء في شراينها، غير أنه كان يتعين على الجثة –وأنا هنا أتحدث عن نفسي– أن تظل دوما محتفظة بحرارتها وصلابة أنسجتها..
أه، نسيت أن أعرفكم بنفسي..
محسوبكم حجر الأساس والبعض يناديني «دبشة»..
مجرد كتلة صخرية دميمة الشكل مدفونة في باطن الأرض، وُجدت فقط لتحمل على أكتافها وهن قوالب من الطوب الهش المرصوصة بعناية والمتدثرة بمعجون الطين الأملس لترونها أنتم قطعة واحدة متماسكة..
تلك القوالب تشكل جدارا شامخا يسر الناظرين، فقد زينوه كعروس في ليلة زفافها وخضبوه بالحناء ليبدو بهيا، كما رصعوه بالنياشين وصور أصحاب المنزل.. حتى الراحيلن منهم يسكنون الجدران في أُطر مُذهبة.
لمائتي عام كاملة وأنا راقد هنا على هيئتي نفسها منذ وضعوني جثة حية، أستمع لهؤلاء الذين يتغنون بشموخ الجدار وصلابته وحُسنه، بينما أحدهم لم يفكر يومًا في أن يدخل إلى باطن الجدار ليرى القوالب اللينة وهي تتآزر ببعضها البعض ليبدو هو قويا كما يرونه هم الآن..
كما أن أحدا منهم لم يفكر يوما في أن يغوص إلى عمق الأرض ليلقي نظرة - مجرد نظرة – على ذلك الحجر المدفون والحامل على عاتقه ذلك الجدار المنتشي بمديحهم..
لو قدر لأحدهم أن يزرع بصره في عمق الأرض، لاصطدمت عينه بكتفي الممتد الراسخ أسفل الضغط المتراكم منذ قرنين، لكنه حتما لن يسمع أنينا أكتمه منذ انتزعت من رحم الصخرة الأم.
لا أخفيكم سرا، لقد فكرت في غير يوم أن أترك مكاني هذا، صاعدا إلى سطح الأرض، ولو لمرة واحدة أملأ فيها رئتي بالهواء، فربما تصادفني عين حسناء، فترضي غروري بنظرة إعجاب.. أو تصرخ: «انظروا لهذا الحجر القوى.. المسوا التاريخ المتكسر على عروقه.. تنفسوا الصبر المتسرب من مسامه»، فأنتشي كما لم أنتشي يومًا.
فكرت في هذا الأمر كثيرا، لكنني في كل مرة كنت أصل للنهاية ذاتها، إذ ليس من النبل أن ينسحب حجر الأساس فتنهار جدرانكم وينهار معها ستركم..
سأبقى هنا بكتفي الواصل بين انهزامي المفروض وانتصارهم الزائف.. بين انطفاء قلبي الحي ولمعان عيونهم الزجاجية.. بين قوتي المعفرة بالتراب وضعفهم المغلف بماء الذهب..
سأبقى هنا شاهدا على انهيارهم وهم يتكومون ركاما على صدري، وحين يأتي البنّاء ليقيم الجدار الجديد لن أصرخ لألفت انتباه الشمس، بل سأمد كتفي مجددا لأحمل الهم الجديد.. فمن عاش في الظل «حجر أساس» لمائتي عام كاملة، لا يمكنه أن يصبح في النور «جدارا» ولو للحظة.