مصريولوجي: «نيلا تون نيلوس».. النيل مجاشي
في العام 1513 انطلقت حملة برتغالية نحو ميناء عدن بغرض الاستيلاء على جدة ومكة والمدينة المنورة ضمن خطة جهنمية لولبية، لاستعادة السيطرة على بيت المقدس. وفي هذه الأثناء تحالفت البرتغال مع الحبشة، وفكرتا في ضرب دولة المماليك في مصر، عبر تغيير مسار نهر النيل، بشق قناة بالأودية الواقعة بين المناطق الجبلية، ليصب النهر في شمال الأراضي الحبشية بالبحر الأحمر، دون أن يصل إلى مصر.
الحمد لله أن المولى عز وجل سلمنا وحمى بلادنا من هذه الفكرة الشيطانية، لكن..
هذه الحقيقة التاريخية صادفتها وأنا أبحث عن معلومات حول نهر النيل – شريان الحياة– في معرض تحضيري للكتابة عن الحياة في مصر «لو النيل مجاشي»، كيف سيكون شكل الحياة في بلادنا لو أن النيل لم يكن موجودا بالأساس؟!
قبل الشروع في الإجابة عن هذا السؤال الافتراضي، وجب التنويه بأن كل ما سيأتي من كلام هو محض هجص في هجص وخيال صرف.. كلام يصلح للروايات الخيال العلمي أو الفانتازيا غير معد للدوريات العلمية..
اتفقنا؟!
إذا ع البركة..
تخيل معي يا مؤمن مصر بمساحتها الواسعة (مليون كيلومتر تقريبا) مع مساحات واسعة من الصحراء، إلى جانب ساحل شمالي بطول امتداد البحر المتوسط وساحل شرقي بامتداد البحر الأحمر، أضف إلى ذلك بقع من الواحات المتناثرة هنا وهناك حيث تنتشر الزراعة عبر المياه الجوفية.. ومساحات أخرى من الواحات القائمة على الزراعة الموسمية المصاحبة لمواسم سقوط الأمطار.. مع العلم بأن جدول مواعيد وأماكن سقوط الأمطار في مصر كان ليتغير مع فرضية عدم وجود نهر النيل، والذي بدوره سيحتم تغيرا مناخيا..
من المؤكد أن هذه التركيبة المناخية والجغرافية كانت لتصنع تركيبة سكانية واقتصادية مختلفة، وربما كانت مصر في هذه الحالة لتصبح مركزا للتعدين يعتمد على استخراج وتصدير البترول والمعادن وما يصاحب ذلك من صناعات ومهن وحرف..
إلى جانب التغير الاجتماعي في شخصية المصريين وارتباطهم بالنهر والدورة الزراعية التي بنوا عليها مختلف شئون حياتهم، فالمصري قديما كان يحدد مواعيده وفقا لجدول الزرع والحصد.. فمثلا كان يتفق على تزويج ابنه بعد بيع القطن ويؤجل سداد ديونه لما بعد بيع القمح، وهكذا..
وفي هذه الحالة لم يكن لمستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي في عصرنا هذا أن يطلقوا واحدة من أكثر الجمل الشائعة حاليا وهي «100 مليون فلاح بيقولوا على بعض فلاحين»، ربما كانوا ليقولون مثلا «100 مليون بدوي بيقولوا على بعض بدو».. وبالمناسبة– في رأيي – أي من المقولتين لا يعيب الفلاحين أو البدو.. لكنها سذاجة الصغار وضيق أفق اللي جابوهم..
وبعيدا عن الرغي العلمي (الخيالي) هذا، ترى ماذا كان سوف يتغير لو لم يكن هناك نيل على مستوى الفنون والآداب مثلا؟!
أقولك يا سيدي..
تصور مثلا أننا لم نكن لنقرأ رواية «ثرثرة فوق النيل» لنجيب محفوظ أو «Death on The Nile» لأجاثا كريستي.. والكثير من الروايات والقصص والقصائد التي كتبت عن النهر العظيم، ولم نكن لنسمع «النهر الخالد» و«النيل نجاشي» و«يا نيل يا ساكن عينيا» و«يا حلو وأسمر».. وصولا إلى «مشربتش من نيلها؟».. لأ؟ «طب جربت تغنيلها!».. لأ برضه! طب جرب وادعيلي..
أما عن السينما والتليفزيون فحدث ولا حرج، تصور يا أخي أننا لم نكن سنشاهد أعمالا مثل «ما زال النيل يجري» و«ابن النيل» و«صراع في النيل» و«عروس النيل».. وصولا إلى فيلم «سمير أبوالنيل» لأحمد مكي وربما يقفز هنا أحد اللمتفلسفين ليقول إن هذا الفيلم لا يتحدث عن النيل فأقول له «اقعد يا خواجة» نعم هو خواجة لا يعي ما يقول فلو لم يكن هناك النيل لما كان هناك من يدعي بأبي النيل..
وبالمناسبة كنا سنحرم من سماع الجملة الشهيرة لبدرية طلبة التي تقول فيها «دي النيلة عليا»، والنيلة ليست أنثى النيل بل هي مادة شديدة الزرقة ولا مجال الآن لمزيد من الشرح..
كما أننا كنا سنحرم من «قنوات النيل المتخصصة» وشركة طيرن النيل وكورنيش النيل وأبراج النيل ومطاعم وادي النيل وكل الشوارع التي تحمل اسم النيل بداية من شارع النيل الشهير في الجيزة وصولا إلى عدد من شوارع منطقة المهندسين (النيل الأزرق والأبيض والفوشيا...).
قد تقول إن كلامي هذا مجرد هجص.. فأقول لك «مانا قلتلك من الأول!!»..
خلاص يا سيدي إذا كنت تريد كلاما علميا.. فخد عندك:
يقول الدكتور صبري حمد في مقال له بعنوان «مصر بين دكتاتورية النهر وديمقراطية الصحراء»، المنشور في العام 2012 في مدونة (خطوات في الجغرافيا): «منذ أن تقوقع سكان مصر حول وادي النيل والدلتا تاركين الصحراء الفسيحة من خلفهم وهم يعيشون في كنف ديكتاتورية النهر قابعين في شرنقة الوادي والدلتا، راضين بمركزية وحكم مطلق نابع من مركزية وديكتاتورية النهر..
وقد نقول إنهم كانوا راضين بذلك وبلغوا حضارة لم يبلغها غيرهم بتأثير الاستقرار وتوافر المياه التي كانت قد شحت ونضبت في الصحراء حتى أن هيروديت قال قولته المشهورة مصر هبة النيل فإذا شبهنا وادي النيل بالأغلبية، فإن الصحراء كانت تمثل دوما المعارضة، فأكثر من 80 مليون نسمة (أصبحنا أكثر من 100 مليون) محتشدون في الوادي والدلتا، وأقل من ٢ مليون متناثرين في صحاريها الثلاث الغربية والشرقية وسيناء..
وبلغة جغرافية توزيع سكاني صارخ قلما نجد له مثيلا في العالم، بين واد مكدس بكثافة تصل إلى عدة آلاف في الكيلومتر المربع الواحد، ونحو نسمة واحدة في نفس المساحة بالصحاري، معادلة تعكس ديكتاتورية النهر، وامامها ديمقراطية الصحراء».
والآن قبل أن أتركك عزيزي القارئ ربما يكون لديك فضول لفهم جزء من عنوان هذا المقال وهو «نيلا تون نيلوس».. فأقولك يا سيدي هذه جملة نوبية تعني «الشرب من مصدر الشرب»..
وختاما: أُمبوه..