رئيس التحرير
عصام كامل

نوال السعداوي.. 60 دقيقة في منزل امرأة استثنائية

فيتو

نوال السعداوي | منزل بسيط، على الجهة اليسرى من بابه تجد ردهته متوسطة الاتساع، يتوسطها مقاعد في شكل شبه دائري، وفي خلفية الجهة اليسرى تكون المكتبة التي تبدأ من رأس الأرضية، وفي المقعد المجاور للمكتبة كانت "هي".. نعم هي: نوال السعداوي لا غيرها!


دخلتُ من باب البيت على استحياء شديد، فربة البيت لا تربطني بها علاقة صداقة، أعرفها أنا وتجهلني هي، لست سوى صبية تخطو خطواتها الأولى في بهو صاحبة الجلالة "الصحافة"، دعتها إدارة أعمال نوال السعداوي بناء على إلحاحها، لحضور جلسة صغيرة للأصدقاء للاطمئنان على صحتها التي تخبطت ما بين الأخطاء الطبية المتكررة في الفترة الأخيرة.

ما إن انفرج الباب بوجهي حتى وقعت عيني عليها، تتكور بجسدها المقاوم على المقعد وتنظر ناحية الباب لاستيضاح هُوية الطارق والضيف الجديد للجلسة، وفي سلام خجول، عرفتها بنفسي، وجلست أتابع في صمت!.


نوال السعداوي | ٩٠ سنة
استكملت نوال السعداوي حديثها الذي كانت قد بدأته قبل مجيئي، للحضور الذين كانوا جميعًا من الشباب، وكأن لحظة دخولي لم تكون سوى تنهيدة سريعة استراحت فيها من الحديث التي أبت إلا أن يكتمل.

"أنا السنة دي هيكون عندي ٩٠ سنة.. يمكن فعلا أنا تعبانة، بس التعب هو تعب جسدي بس، أما روحي فهي دائما في تواصل، وقلبي لسه بينبض بالحب، وعقلي كل يوم بينمو عن اليوم اللي قبله".

آخر تفاصيل الحالة الصحية لنوال السعداوي

فكرة الـ ٩٠ عاما مرعبة إلى الكثيرين، ولكن مرت عليها نوال السعداوي في حديثها كأنها أضحوكة ومعلومة لا تأثير لها، فالأساس لديها لا يقوم على العمر، وإنما قوام الروح والعقل، حيث نقاط قوتها التي اعتمدت عليهم طوال مسيرتها العلمية والفكرية.


نوال السعداوي | مرض خجول
الوعكة الصحية الأخيرة التي ألمت بدكتور نوال السعداوي، كان لها تأثير كبير لاشك في حركتها وقدرة جسدها على الاستمرارية، فجسدها يبدو عليه الهزل والضعف، وبات شعرها أقصر من ذي قبل، مع نصاعة بياضه الذي يخبرك عن حكمة كبرى في مالكه، ويدعوك للتفكر فيما تقول.

(بدأت الوعكة الصحية بخطأ طبي تم اقترافه أثناء إجرائها جراحة المياه البيضاء في العين، ومن ثم فضل الأطباء متابعة العلاج معها منزليا والاستراحة، ولكن حالة عينها الصحية أثرت عليها لتتعرض للسقوط مرتين في منزلها، وماسبب لها بعض الكسور في الضلوع ومضاعفات على الأجهزة الداخلية).

رغم آلام الجسد وهرمه، إلا أن نوال السعداوي بدت كوتد يأبى الانصياع لتدابير العمر والسن، فالجسد يظهر عليه سنواته التسعين، أما الروح فهي ابنه صبا العشرينيات وفتوتها واستغنائها.

"أيوه وقعت هنا في البيت مرتين من التعب، ولكن عمري ما هطلب مساعدة من حد، أنا أفنيت عمري في خدمة قضية وفكرة ووطن أنا مؤمنة بيه، والتقدير لو مجاش لوحده، يبقى ملوش لازمة" قالت.

نوال السعداوي تعترف: ذكريات مؤلمة تجتاحني والعالم غدر بيّ


نوال السعداوي | كتاب جديد !
بعد مضي نصف ساعة، انتقلت أطراف الحديث بعيدًا عن المرض وآلامه لتدق أبواب الفكر والإبداع من جديد.. فكانت الجلسة أشبه برابطة أصدقاء وصديقات جئن لدعم نوال السعداوي وتقديم يد العون لاستكمال مسيرة تنوير الشباب، فدار الحديث بيننا لتبادل أفكار حول ما يمكن تقديمه أكثر للإبقاء على تلك الاستمرارية.

قالت: "أنا بعاني من دور النشر اللي بينشروا وبعدين مبشوفش من أغلبهم لا أبيض ولا أسود، حتى الكتب بتحايل عليهم عشان يجيبوهالي.. تفتكروا أعمل ايه أكثر عشان المسيرة تستمر، أعمل ايه أكتر من أنه ٩٠٪ من كتب نوال السعداوي موجودة مجانا pdf على مواقع الإنترنت! اكيد مش هنزل ألف على الناس وأقولهم اقرأوا".

على الرغم من الملل الذي تتلمسه جليًا في حديث نوال السعداوي عن الكتب والنشر، إلا أنه ملل لحظي، لم يلبث سوى لدقائق معدودة، حين اعتدلت في جلستها وقررت تولي إدارة أعمالها إعادة الحديث مع دور النشر والتعاقد مع دور جديدة سواء إن كانت عربية أو أجنبية لاستكمال حلقة النشر، خاصة مع عكوفها على إملاء الجزء الرابع من كتابها الجديد الذي سيبصر النور قريبًا، لمساعدتها التي تواظب على الحضور يوميًا لمنزلها لكتابة ماتمليه عليها نوال من الفصل الرابع بالكتاب، إضافة إلى مقالات الصحف المتعاقدة على الكتابة فيها.

مثقفون عن نوال السعداوي: كشفت الجهل وتمردت على المفاهيم «تقرير»


نوال السعداوي | ضياع العمر على قضية
الربع الأخير من الجلسة، كان للعمر فيه مقعد من الحديث، حيث أدرات نوال السعداوي عينها للجلوس واحد تلو الآخر لتسأله عن أحواله وما يصنع في حياته، ليجاوبها أحدهم قائلا: "أدركت أنني أعيش حياة واحدة فقط، ولا أملك رفاهية إضاعتها على قضايا وأفكار أفلاطونية في عالم يرفض التغيير ويتكاسل عن المعرفة ويخشى القراءة.. لذا قررت أن استمتع بالحياة، لا اضاعتها والبكاء على أطلالها".

تنهدت نوال السعداوي وابتسمت، ربما عزف ذلك الشاب ونفخ بقوة على ناي أفكار نوال ليخرج لحن حزين شجي.. أشاحت بنظرها عنه إلى فضاء رحب، ربما أيضًا أبصرت في حديثه سنوات عمرها التي قضتها تؤمن بأفكار الحرية والمرأة والمعرفة وتحمل قضية كبرى على أكتافها التي بدت هزيلة بعد انقضاء تلك السنوات.. ولكن ذلك اليأس الذي تلصص إلى عينها وحديثها لم يلبث سوى دقائق، حيث لفظته من جسدها وقالت:

"يمكن فعلا الواحد ضيع عمره وحياته على قضايا وصراعات، يمكن كان المفروض أستمتع بحياتي وأهتم بها أكتر.. بس لا! ازاي أعيش من غير فكرة وإيمان! ازاي تمر الأيام بدون ما أقدم شيئا، وأتوقع بس على حب نفسي وذاتي.. أعتقد أني مش ندمانه، والوسطية هي الأفضل، يعني تؤمن بفكرة، وبرده تعيش حياتك".



نوال السعداوي | الخوف من الموت
لشخص عادي يقف على أعتاب التسعين من عمره، لا يمكنه إلا أن يخاف من الموت وينتظره، إلا أن نوال السعداوي لم ولن تكن إلا امرأة استثنائية لا تخاف من الموت وإنما تنتظره بشغف لا يوصف.

قالت:
"معرفش ليه حاسة أني قربت، بس حقيقي أنا مش خايفة أبدًا من الموت، لأني دائما مؤمنة أنه الموت هو الجزء يتصل بالحياة، وربما هو الجزء الأفضل منها، عشان كده مش خايفة ولا هخاف منه، عشان كده أنا مش خايفة ولا هخاف منه، بالعكس.. أنا بس نفسي المسيرة تكمل سواء أنا موجودة أو لا".

تلك الكلمات تبعها استنكار كل الحضور الذي راح يدعو الله تعالى لها بالمزيد من بركة العمر، إلا أنها ردت تلك الأمنيات بابتسامة مؤمنة، علقتها على فمها، ابتسامة تفهم ما تقابله وما هي موشكة عليه وإنما تحب قدومه في وداعة شخص أتم مهمته.. علقت تلك الابتسامة في صمت، واعتذرت للحضور بالقيام لغرفتها كي تستريح!.



60 دقيقة في حضرة نوال السعداوي 
لم تكن ساعة زمنية، قضيناها في منزل نوال السعداوي وإنما كانت عمرا كاملا وعصارة حكمة وقضية ولدت على يد امرأة.. ربما مرت الـ 60 دقيقة في سرعة لا توصف، ولكن أثرها يبدو أنه سيبقى أبد الدهر في نفوس الحاضرين.
الجريدة الرسمية