رئيس التحرير
عصام كامل

ثوار.. لا أنبياء ولا مصلحين


كانت دقات الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل، في إحدى ليالى صيف ١٩٩٦، عندما كنت عائدا بصحبة الزعيم "مصطفى كامل مراد" رئيس حزب الأحرار، وأحد ضباط ثورة يوليو من مركز المنزلة، بعد مؤتمر حزبى جماهيري، أشار "مراد" إلى السائق بأن يتوقف في كافيتريا شهير للمشويات، حيث دار بيننا حديث ليس بالقصير حول ثوار يوليو ومذكراتهم، وكل ما كتب عن الثورة والثوار.


بادرته بسؤالى: لماذا لم تكتب مذكراتك حتى اليوم، وتتهرب كلما طالبناك بذلك؟ غاص الرجل ببصره في سقف البناية التي نجلس بها وهو يقول: لأن كل من كتب مذكراته عن الثورة كتبها وكأننا كنا أنبياء وهذا غير صحيح، كنا بشرا حسنى النيات، أصبنا كثيرا وارتكبنا أخطاء فادحة، وتنهد بعمق ثم قال: اقرأ كل ما كتب ستكتشف أن الكاتب نبى لا يخطئ، وأن الثوار صحابة ومصلحون، وأن ما دونهم كانوا خونة.. وكل هذا غير صحيح.

وأضاف "مصطفى كامل مراد": أخطأنا عندما أهنا "محمد نجيب"، وعندما وقفنا مع "عبد الناصر" ورفضنا عودة الجيش للثكنات، وأخطأنا عندما أممنا الحياة السياسية، ولم يتجرأ واحد ممن كتبوا مذكراتهم على الاعتراف..

 سكنت وجه الرجل قسمات حادة، وهو يقول: إن كتبت اليوم لن أخون التاريخ، وسأكتب عن انتصاراتنا وانكساراتنا، سأكتب عن خطايانا، وأعري الحقيقة، وساعتها لن تكون النتيجة إيجابية، سيكون التشكيك هو الصورة الذهنية لكل ما جرى.. سأسيء إلى كل من تجاهل الحقيقة، ولست مستعدا لذلك!!

بعد عامين وارى التراب الرجل، ودفن معه حقائق، ربما كانت نبراسا يضئ الطريق لمن يأتى بعده، آثر الصمت ومات بعد حياة قضاها بين دهاليز التجربة التعددية الثانية العرجاء، ولم يقل الحقيقة التي ظلت حتى اليوم تائهة بين دهاليز الأرشيف الذي لم يكشف عنه حتى تاريخه، لا المصريون كشفوا عن ذلك، ولا كلف مؤرخ نفسه عناء البحث في الأرشيف البريطانى الغنى بوثائق شافية عما جرى.

حتى اليوم يتدارس أبناؤنا تاريخا زاخرا بالكذب، فالثورة التي غيرت وجه التاريخ في مصر والعالم المحيط لا تزال تنعم بقدسية لا تنعم بها إلا الأديان السماوية، تتمتع بهالة من النور الخالص دون نقطة عتمة، رغم ما جرى في الحياة السياسية التي فقدنا بسبب اغتيالها الكثير، بعد أن ساد الحياة صوت واحد، وكلمة واحدة، ونفس واحد، بعد أن كنا واحدة من التجارب النيابية الأقدم في محيطنا.

حققت ثورة يوليو نجاحات عظيمة، غير أنها كانت تربة خصبة لتنامى ظاهرة الهالوك الطفيلى، اختفت الكفاءات بفعل النفاق السياسي، وأصبحت البلاد غنية بالمتسلقين، وتوسع التعليم كميا دون جودة، فتخرج في الجامعات أميون، وتدهور الاقتصاد، ووئد القطاع الخاص، وبعثرنا أموالنا على حروب خارج حدودنا، وفرغت خزائن البلاد.

قضت الثورة على فساد الحياة السياسية، وعلى الحياة السياسية نفسها، وواجهت الثورة الفاسدين، ووفرت المناخ لنمو طبقة جديدة أوسع من الفساد الملكي القديم، أنصفت عبادا وظلمت آخرين، أنشأت صناعات عظيمة دون تربة خصبة للبحث العلمى وإدارة ناجحة فكان ما كان، فقدنا السودان وغزة وسيناء بأيدي الهواة، وأفقنا بعد أن أصبح الندم عنوانا عريضا، وكانت نكسة يونيو اختزالا حقيقيا لما كنا عليه!!

أي ثورة لابد وأن تقدم لشعوبها خالصة بالحقائق، كل ثورة لها خطاياها التي يجب أن تدرس جيدا، لتصحيح المسار، وتعليم الأجيال الجديدة من أخطاء الماضى، أما ترك الأمور على ماهى عليه دون تنظيف الجرح الغائر، فإنه لن يترك فينا إلا خطايا متكررة لن تكون ثمارها إلا علقما لا يداوى، وربما تترك آثارها السلبية بين الأجيال.
الجريدة الرسمية