الفتنة الكبرى
استقللت سيارتى ومضيت إلى المسجد الذي اعتدت فيه صلاة الجمعة.. في الطريق من منزلى إلى المسجد المراد، مررت بثلاثة مساجد، كانت الخطبة قد بدأت، ولاحظت أن المساجد الثلاثة التي مررت بها يتناول أئمتها موضوع الخلاف السنى- الشيعى، ولاحظت أيضا أن الثلاثة يقودون حرب تشويه ضد الشيعة، تيقنت أن الأئمة الثلاثة ينتمون إلى المدرسة الوهابية التي لم ولن تنتهى حتى وإن أراد صانعوها ذلك.
وضع المجتمع بكل ما تسكنه ضلالات الوهابية التي ما أنزل الله بها من سلطان تحت سطوة تكفير الآخر، واجترار قصص وهمية المقصود بها تجهيز المجتمعات العربية لحرب جديدة إن بدأت فإنها لن تنتهى، ولن يكون فيه رابح أبدا، الأمر ذاته هو ما فعلته الميديا الغربية ومن ورائها يسير القطيع الإعلامي العربى في الحرب على العراق، فقدنا العراق، وفقدنا معه واحدة من أهم القوى العربية.
وعد الأمريكان في ذلك الوقت بعراق ديمقراطى حر يغير محيطه، وكانت النتيجة أننا أصبحنا بلا عراق أصلا، بعد أن تم تدشين نموذج من الفساد والصراع والمحاصصة، وتقطيع أواصر المجتمع، وهنا بالطبع سقط عن الخليج كله أهم قوة مدافعة بحضارتها وقوتها وقدراتها، وأصبحنا على ما فعلنا نادمين.
منطقة الخليج الآن تعيش واحدة من اللحظات التاريخية الفارقة، خاصة وأن الصراع الداخلى بين بلدان المنطقة أصبح علنيا، سلطنة عمان لديها تصوراتها لأمن المنطقة، واعتبار إيران جزءا لا يتجزأ من هذا الأمن، وأن الصراع الذي تجهز له شعوب المنطقة بين السنة والشيعة لا وجود له في الأساس، والسلطنة نموذج يحتذى في هذا الأمر، حيث يعيش السنة والشيعة نموذجا مترابطا موجبا على المنطقة أن تراه بعيون حيادية.
الكويت أيضا لها وجهة نظر تبنى أسسها على فكرة الحوار، ولا ترى في الصدام خيرا للمنطقة كلها، وترفض أن يساق الخليج إلى حرب جديدة لن تبقي أخضر ولا يابسا، قطر بدورها ترى فيما يقدم على الطاولة ضالتها المنشودة، في إطار خلافها مع مصر والسعودية والإمارات والبحرين، خاصة بعد أن ألقت بنفسها في حضن إيران نكاية في دول الجوار.
استخدام المنابر المصرية في تأجيج الخلاف بين السنة والشيعة لا يحمل خيرا لا لنا ولا للخليج، مصر نسيج اجتماعى واحد.. أعرف عددا من الشيعة المصريين، صادقناهم وصادقونا، صلينا معا في مساجد واحدة، ولم نر منهم إلا كل خير، ولا أظن أن مصريا واحدا تلاحظ له أن هناك عداء بينه وبين جاره الشيعى رغم قلتهم، طبيعة المصريين نفسها تحمل هذا المزيج الروحانى لسنة بطعم التشيع لآل البيت، ومن يعرف طبيعة هذا الشعب جيدا يدرك أن إشعال فتيل الفتنة أمر غريب وشاذ، ولا يتفق وطبيعة التدين المصرى الذي يحمل في تفاصيله أديانا ربما كانت أقدم من الديانات السماوية نفسها، المصرى هو الذي ابتنى حضارة تبحث عن الخالق منذ قديم الزمان.
أتصور أن وزير الأوقاف الدكتور "محمد مختار جمعة" وزير يتسم بالذكاء والحسم في إدارة شئون المساجد، وما يقدم على منابرها، ويقود حركة تجديد حقيقية في وزارة الأوقاف بكافة تفاصيلها، أختلف معه أو أتفق فهو واحد ممن يتابعون عن كثب كل ما تلقى به المنابر على آذان الناس، ونتصور أن ملف إشعال الفتنة بين السنة والشيعة لا يقل خطرا عن سطوة الإرهاب الذي تحاربه الدولة دفاعا عن صحيح الدين.
قبل عصر الإنترنت كانت هناك دولة عربية تقوم بتفتيش كل عائد من الحج أو العمرة لإعدام كل ما من شأنه مادة دينية قادمة من المملكة العربية السعودية، دولة فطنت إلى خطر الوهابية منذ زمن، وهو الخطر الذي التفتت إليه المملكة نفسها في عصرها الجديد، ويكفى أن يعتذر واحد في حجم عائض القرنى عما سببته آلة الدين الوهابى في المنطقة بل وفي العالم، أيضا مسئول كبير كانت لديه الشجاعة ليعترف بأن الوهابية إنما جاءت لخدمة حلفائنا في الغرب، نعم لحلفاء غربيين وأمريكان.
إذا كانت السعودية نفسها تنفض عن نفسها غبار التشدد والتطرف والإرهاب، فما الذي يجعلنا نمارس الصمت ضد غلاة الوهابية في مصر؟ وما الذي يجعلنا نمارس السكوت على صعودهم للمنابر؟ ولصالح من نقود فتنة أشد من القتل بين السنة والشيعة ومصرنا قد سكنها الكثير من الإرهاب الوافد عبر مغتربين، راحوا من أجل لقمة العيش، فعادوا إلينا قنابل مفخخة، وقد دفعنا ثمنا باهظا ومازلنا ندفعه حتى الآن.
أتصور أن المؤسسة الدينية الرسمية من حقها رقابة الخطاب الدينى المفخخ، فلا حرية في الدعوة إلى القتل أو التهميش أو الإقصاء، الحرية تكمن في كونها دعوة إلى الترابط والعدل والحب، فالأديان بأصلها القادم من السماء دعوة حب وإخاء، وليست دعوات للقتل إلا في عصور الضعف والتخلف والجهل.