مولد يا دنيا!
آه يا زمان العبر، سوق الحلاوة جَبر، إِحنا اللى كانو الحبايب بيسافرو بينا القمر، بَقينا أنتيكة، دُقى يا مَزيكا، والدنيا فابريكة بتفرم الإنسان، قصدى اللى كان إنسان، طيب يا صبر طيب!
كُلَما تجولت داخل فيس بوك وقرأت ما يكتُبه الناس على اختلاف ثقافتهم وتوجهاتهم، وعلمهم وسلوكهم، وشاهدت مقتطفات من البرامج الحوارية المتعددة، والمسلسلات، وتصفحت الأخبار اليومية في المواقع المختلفة، أتذكر دائما صوت المبدع "عبد المنعم مدبولي" وكلمات الأسطورة مرسي جميل عزيز وألحان الموسيقار العظيم كمال الطويل، في أغنية "طيب يا صبر طيب" من فيلم "مولد يا دنيا" وبالتحديد المقطع الذي ذكرته في مقدمة مقالي!
وبعيدا عن أحداث الفيلم، فإن هذا المقطع من كلمات الأغنية، يجعلني أتوقف كثيرا وأبكي شوقا على زمن عشت فيه، كنت أحترم وأحب كل مذيع يظَهر على أي قناة من قنوات التليفزيون الأرضية محدودة العدد، حتى لو كان هذا المذيع يُقدم نشرة الأخبار، فكنت أراهم نجوما، بل كنت أشعر بسعادة بالغة إذا قابلت أيا مِنهم على سبيل الصدفة في أي مكان، وبالقياس على ذلك كان الفنانون ولاعبو كرة القدم وبعض السياسيين والصحفيين وأساتذة الجامعات وغيرهم من الوظائف، وكنت أعتقد كثيرا في كل الدُعاة وأحب الاستماع إليهم في الراديو ومشاهدتهم في التليفزيون!
عاصرت أجمل المسلسلات والبرامج التليفزيونية والإذاعية الهادفة، وتتلمذت على أيدي أساتذة عظماء أفاضل أدين لهم بالفضل والجميل أبدا ما حييت في كافة المراحل التعليمية، أتذكر كل وسائل المواصلات والشوارع والمحال والمطاعم وحتى عاملات البوفيه، سهرت أستمع إلى عمار الشريعي في غواص في بحر النغم وأحببت على صوت أم كلثوم وعبد الحليم وكَبرت وأنا أُقبل يد والدي رحمه الله كلما رأيته!
أما اليوم، بقينا أنتيكة، عندما أصبح السواد الأعظم من السادة الذين يطلقون على أنفسهم الإعلاميين، يغنون نفس الكلمات، ونفس اللحن، ويلتزمون بنوتة موسيقية واحدة رغم اختلاف الأشخاص والمحطات التي يظهرون من خلالها، لدرجة تجعل أي إنسان مُثقف حُر يشعر بالغثيان والرغبة في القيء ولا يراهم إلا أشخاصا قليلة رخيصة، لا تستحق حتى تضيع ثانية واحدة في المشاهدة أو الاستماع للهراء الذين يتحدثون به طول الوقت!
سوق الحلاوة جَبر، بعد أن أصبح فيس بوك وسيلة كاشفة لعقليات الكثير من أشخاص كانت تختفي خلف مناصبها وثرائها ووضعها الاجتماعي، فإذا بها من خلال كتابتها وتعليقاتها، شخصيات هشة فقيرة فكريا ومدمرة ثقافيا، لا تصلح للتداول الآدمي، كأب أو أم أو معلم أو صديق أو حتى إنسان، لأن الدنيا فابريكة بتفرم الإنسان، قصدي اللي كان إنسان كما تَغَني عبد المنعم مدبولي، ولا عجب أن تجد بين هؤلاء أساتذة جامعات وأطباء وعلميين وخريجين جامعات ومن يطلقون على أنفسهم مفكرين..
والحقيقة أن عقول هؤلاء لا تصلح حتى لقراءة صفحة واحدة في مجلة ميكي!
طيب يا صبر طيب، على زمان أصبح فيه بعض من يمثلون الشعب، هم من يقومون بسبه وإهانته دون مانع أو رادع، بل وتحميهم حصانتهم، وتحولت الداعية الإسلامية إلى مذيعة فتنة وتشجيع الأزواج على إفشاء أسرار الزوجية بعد الإنفصال، وتصدرت أخبار زنا المحارم وقتل الأبناء وقتل الآباء والأمهات والأزواج، والانتحار جميع الصحف اليومية، وتحولت القدوة إلى مادة تفتقد المضمون وجَعلت "الغاية تبرر الوسيلة" مبدأ حياة، يتحدث به الأبناء ويصبح حلمهم أن يصبحوا مثل ممثل ما أو لاعب كرة قدم لا يحمل أكثر من شهادة تعليم فني أو معهد متوسط على أفضل تقدير!
وأخيرا، فلقد تعلمت في مصر داخل مدارس حكومية، وعشت أجمل أيام عمري في قرية مصرية بسيطة، بها أغلى الذكريات وأكثر الأصدقاء محبة إلى قلبي، والتحقت بجامعة القاهرة الحكومية، وتعينت بها معيدا دون وساطة أو محسوبية مثلي مثل الكثير من جيلي، وحصلت على الماجستير والدكتوراه داخل مصر من جامعة القاهرة..
لم تَضيق مصر على طموحي يوما، وًبفضل مصر وتعليمها المجاني، أعمل الآن في واحدة من أكبر جامعات الولايات المتحدة وأنقل علم وخبرة شاب مصري عاشق لوطنه، إلى طلاب من كل العالم يدرسون في الولايات المتحدة وأشغل مناصب متميزة بالانتخاب بفضل ما تعلمته في وطني عندما كان الزمان إنسان، لذلك أبكي كلما استمعت إلى هذه الأغنية ودائما أتوقف عند رسالة هامة من هذه الأغنية وهي "طيب يا صبر طيب"!
وأخير يرحم زمان وليالي زمان ودُقي يا مزيكا، دُقي!