بين الحمد والعبودية
حال المؤمن عندما ترد عليه نعمة من الله هو الشكر. وعند الابتلاء يرد بالحمد، ومن المعروف أن الحمد أرقى من الشكر، ولذا بدء الحق سبحانه وتعالى كتابه الكريم وأول آياته بها في فاتحة الكتاب فقال تعالى: "الحمد لله رب العالمين"، وكلمة الحمد كلمة جامعة لكل صفات الثناء، وهى تعبر وتشير إلى الشكر والرضا بالقضاء، وفي نفس الوقت الثناء عليه تعالى..
وللحمد وجوه متعددة المعاني منها الإعلان عن رضاء العبد بقدر الله وقضائه سبحانه وتعالى، وتعرب أيضا عن حال العبد بالصبر الجميل الذي ليس فيه ضجر ولا تصحبه شكوى، والحمد فيه استفاء الشكر على النعم، واستيفاء الرضا والتسليم لله تعالى في قضائه وقدره، وفي الحمد يكمن الرضا عن الله تعالى، ويتفاوت أحوال العباد في الحمد، فمنهم من يحمد الله بلسانه فقط ونفسه ضاجرة غير راضية. وقليل من الناس من يحمد الله عند البلوى بنفس راضية وعادة ما يكونون من أهل محبة الله تعالى.
هذا وكل عبد يحمد الله على قدر إيمانه ومعرفته بربه تعالى. ولا شك أن أحمد الخلق لله تعالى هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي المقابل أنه صلى الله عليه وسلم المحمود من بين جميع الخلق من الله تعالى، ورسول الله هو الجامع لأوصاف الحمد فهو أحمد خلق الله، وهو محمد المحمود من بين الخلق من الله تعالى، وهو الحامد والمحمود، وهو صاحب المقام المحمود..
وأرى والله أعلم أن الحمد المنسوب إلى الله فيه إشارة إلى النبي الجامع لصفات الحمد وأوصافها، وأرى أن الحمد صفة حضرته الكاملة الجامعة ونسبته إلى خالقه وبارئه سبحانه وتعالى، هذا وللحمد صيغ كثير وردت في القرآن الكريم بمعان متعددة كلها تشير إلى شكر الله عز وجل على نعمه وعظيم فضله في الدنيا والآخرة، منها قوله تعالى: "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنتهدي لولا أن هدانا الله"..
ووقوله: "وآخر دعواهم إن الحمد لله رب العالمين".. وقوله: "الحمد لله الذي أوردنا الجنة نتبوأ منها حيث نشاء"...
ومن صيغ الحمد الواردة في السنة النبوية المطهرة قوله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه ملء السموات والأرض.. ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك الكريم وعظيم سلطانك القديم.. الحمد لله عدد خلقه وزنة عرشه ورضاء نفسه ومداد كلماته.. ودوام ملكه".
هذا.. والحمد والشكر هما لسان حال المؤمن وبما تتحقق عبوديته لربه عز وجل، وهما يلزمان العبد في كل أحواله وأحوال العبد في دنياه أربع لا خامس لها. إما في نعمة أو ابتلاء وإما في طاعة أو معصية.
وهو مطالب إن يكن في كل أحواله عبدا لله تعالى ولكي يحقق ذلك يجب عليه الآتي.. إن كان في نعمة عليه أن يشكر الله عز وجل والشكر لا يكون باللسان فقط وإنما يكن بالعمل، وذلك بأن يضع نعم الله حيث أرادها سبحانه، وأن يجعل للناس نصيبا فيما أنعم الله عليه.. وإن كان حال الإنسان كذلك فقد حقق العبودية لله تعالى في النعمة..
هذا وإن كان في ابتلاء فعليه أن يرضى بقضاء الله وقدره، وإن لم يستطع فعليه أن يصبر. والرضى أرقى وأفضل من الصبر، لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "أعبد ربك بالرضى، فإن لم تستطع فعليك بالصبر، ففي الصبر على ما تكره خير كثير".. ويجب أن يكن من أهل الصبر الجميل، وهو الذي ليس فيه شكوى ولا ضجر.
فإن كان حاله كذلك فقد حقق العبودية لله تعالى في حال الابتداء.. وإن كان في طاعة فعليه أن يرى فضل الله تعالى عليه وتوفيقه له، ولا يرى لنفسه فضل في طاعته ويهتدي بهدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وإن في معصية فعليه بعدم الرضا عن نفسه وإنكار ذلك عليها، وتأنيبها والندم على معصيته وإن يلزم الاعتذار والتأسف الاعتذار، وعدم الإصرار وعقد النية على التوبة وعدم العودة. فإن كان حاله كذلك فقد حقق العبودية لله تعالى في حال المعصية..