كيف اختارت أم كلثوم جمهورها ولم تستسلم لسميعة «متخافش عليا أنا واحدة سجوريا»
في مثل هذا اليوم، خرج 4 ملايين مواطن بشوارع القاهرة لوداعها، لا يصدقون أن «صاحبة العصمة»، رحلت، وتركت الجميع يتساءلون: بعد النهاية الحزينة للمشروعات العربية وأفول القومية، ماذا سيربط بين العرب من المحيط للخليج بعد «ثومة»؟
كيف رسمت أم كلثوم هذه الصورة، ولماذا تربعت على عرش القلوب والآذان والمشاعر العربية، منذ بدايات القرن العشرين، وحتى الثالث من فبراير 1975.. هل كان الطريق سهلًا لرسم صورة عصماء، لم يعرفها الشرق لأي سيدة أخرى في تاريخ الفن العربي؟
لا يمكن فصل السياسة عن الفن، حتى في تاريخ ثومة.. حظ كوكب الشرق، قادها وقت تحولات سياسية عظيمة عاشها المصريون بعد ثورة 1919، ونقلت المجتمع المصري إلى الحداثة بالتزامن مع تحولات عالمية، فأوجدت موضوعات جادة وشخصية للفن، تختلف عما سبق هذه المرحلة، التي كان فيها مذمومًا، ولا يحظى باحترام وشعبية كما هو بعدها.
وخلقت ثورة 19 «الطبقى الوسطى»، ومعها حدث انقلاب تاريخي في قيم المجتمع، تجاه نظرته للفن، وكان الطريق ممهدًا لأم كلثوم، لتصبح «كريمة» هذه الطبقة، بحسب تعبير الدكتور محمد عفيفي أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة.
البحث في شخصية أم كلثوم، والتزامها الصارم بإحداث ثورة في عالم الغناء، بداية من منتصف عشرينيات القرن الماضي، وتمكين الشعر، وخوض طريق صعب للغاية، على فتاة فقيرة، قادمة من أدغال الريف، وتحديدا قرية طماي الزهايرة، بميت غمر بمحافظة الدقهلية، إلى مجتمع المدنية، ووضعه في الواجهة بدلًا من «الابتذال» الذي كان يسيطر على الوسط آنذاك، يقودنا إلى عدة أسباب، أهمها الإيمان بـ«بركة العجز».
كانت أم كلثوم ابنة لأب فقير، يعاني بشدة من شظف العيش، والتعليم الوحيد المعتمد لأبناء الفقراء والطبقة المتوسطة «الكتاتيب»، ودخلت الكُتّاب في وقت كان والدها ينشد في الموالد بجانب عمله إمامًا بأحد المساجد، وأتقنت التجويد وأحبت الشعر بشدة، فتفوقت على البطانة الصوتية لفرقة والدها الصغيرة، ونضجت مع الوقت، ولكنها رغم تفوقها وصيتها بالمنطقة، وجميع البلدان المجاورة إلا أنها كانت تغني بلا إحساس أو شعور، باختصار، لا تتذوق ما تقوله.
رددت أغاني والدها بنفس الطريقة النمطية والرتيبة غالبًا، التي يردد بها التلميذ جدول الضرب، وقواعد النحو والصرف، ورغم تصاعد الملل إلى روحها كلما تقدمت في الغناء، إلا أن شيئا ما جعلها تشعر بسحر الكلمات والموسيقى والألحان، والرغبة في تجاوز غناء الكفور والنجوع والموالد «فونوغراف العمدة» كما تحكي لمحمود عوض في كتابه التاريخي، أم كلثوم التي لا يعرفها أحد.
تقترب من بعيد لتسمع هذا الشيء، يشدو بقصائد الشيخ أبو العلا محمد، رائد تلحين القصيدة في الربع الأول من القرن العشرين، وأحد أفضل الملحنين بالتاريخ المصري، والذي سيلعب القدر دورا في اللقاء بينهما، ويكون صاحب لمسة كبرى في وضعها على أول الطريق؛ حفظت قصائده، غابت عن الوعي كثيرا عند سماعه ينشد «أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا»، و«حقك أنت المنى والطلب» و«غيري على السلوان قادر».
كانت أم كلثوم لا تزال طفلة، وبنات جيلها يتراقصن على أغان مثل «البحر بيضحك ليه وأنا نازلة أدلع أملا القلل» لسيد درويش، ولم يكن بالجدية والقوة والتأثير التاريخي الذي ناله هو أيضا بعد ثورة 19؛ وغيّر أبو العلا في أم كلثوم كثيرًا، جعلها تفهم الأبيات وتتعايش معها وتحبها، قبل حفظها وغنائها.
جوع القراءة، ضمن أسرار هذه الشخصية.. كانت أم كلثوم قارئة، تلتهم كل ما يقع تحت أيديها من كتب، قرأت كل القصص في منزلها الصغير بطماي الزهايرة عشرات المرات، هوّت الشعر، حفظت قصائد لعظام الشعراء من أمثال ابن الفارض، وابن الرومي، والبحتري، وقرأت كتاب الأغاني للأصفهاني، وفي العصر الحديث للمتنبي، والشريف الرضي، ومهيار الديلمي، صارت مع الوقت تعشق الشعر، والقصة، وكل بيت جديد تقرأه، يثير فيها شغفا لفتاة تقرأ أول قصة غرامية في حياتها، وعرفت موازين الشعر، لدرجة أنها كانت تشعر جيدا بالبيت المكسور، والآخر الواقف على قدميه.
كيف تطبق هذه الموازين بحياتها بالقاهرة، مقومات صوتها وثقافتها تؤهلها للتربع على عرش الفن العربي، ولكن ماذا عن الحياة والواقع والظروف، كيف لفتاة أتت للتو من الريف بالعقال والبالطو الأزرق، وتغني المدائح النبوية، إلى القاهرة، التي تصنف موسيقى للفقراء وأخرى للأغنياء، وبالتأكيد فتاة بهذه المواصفات لن تقيم في مجتمع الأغنياء.
قال «كلوت بك» في كتابه وصف مصر: المغنون المصريون، كانوا يعرفون بـ«الآلاتية» مفرد آلاتي، وينقسمون إلى طبقة محتقرة فاسدة الأخلاق، الرجال تقدم إليهم الخمور أثناء الغناء، ويفرطون في شربها، فيفقدون رشدهم ويسقطون على الأرض، والمغنيات يطلق عليهن العوالم وهي تسمية أطلقها الإنجليز على الراقصات، وامتدت لتشمل جميع من يعمل بالفن.
كانت هذه النظرة الدونية للفن، تمتد للحكومة التي وضعت خططًا لتطوير شئون الفن آنذاك، ولمن تجد له إلا دائرة صغيرة ضمن وزارة الأشغال، وكأنه لا يختلف كثيرًا عن تخصص هذه الوزارة في الرصف وإنشاء الطرق، لدرجة أن فنانا بحجم زكي طليمات الذي شهد هذه الحقبة، هو من موظفي وزارة الأشغال.
كان الفن متذبذبا، والمسرح الغنائي يبتعد كثيرًا عن التواشيح، والنهضة التي أحدثها فن سيد درويش، وأصبح يقترب من الخلاعة، واشتهرت أغاني مثل: ارخي الستارة اللي في ريحنا، أحسن جيرانك تجرحنا، لعبد اللطيف البنا، وأخرى تقول مطلع كلماتها: مين فيكم بابا، مين فيكم ماما، مش عارفة نينة من غير علامة، وأخرى تقول أوعى تكلمني بابا جاي ورايا لعزيزة المصرية، والمثير أن من لحن هذه الأغنية كان الشيخ زكريا أحمد!
عزيزة المصرية طقطوقة أوعى تكلمني
هذه الملامح سيطرت، على شارع عماد الدين، قبلة الغناء في مصر، فتقول عزيزة المصرية: «متخافش عليا أنا واحدة سجوريا، في العشق يا أنت واخدة البكالوريا، أقعد سهتانة قلبى مشغول بك، ولما تشعلل لهيب نار حبك، أرخى الناموسية وأنام لى شوية وأحبكها وأشبكها بميتين دبوس وأحضن وأبوس وانزل على صورتك حتتك بتتك».
هذه الملامح سيطرت، على شارع عماد الدين، قبلة الغناء في مصر، فتقول عزيزة المصرية: «متخافش عليا أنا واحدة سجوريا، في العشق يا أنت واخدة البكالوريا، أقعد سهتانة قلبى مشغول بك، ولما تشعلل لهيب نار حبك، أرخى الناموسية وأنام لى شوية وأحبكها وأشبكها بميتين دبوس وأحضن وأبوس وانزل على صورتك حتتك بتتك».
ما تخافش عليا دا انا واحدة سجوريا نعيمة المصرية 1925
كان «السميعة» يطلبون من الوسط الذي ستغني فيه أم كلثوم، أغنية الموسم عام 1925، وتقول كلماتها: «إيه اللي جرى في المندرة، شيء ما أفهموش، أنا كنت لسه صغيرة»، بينما كانت منيرة المهدية سلطانة الطرب وملكة عرش الفن، عندما يغضب منها أحد الوزراء الذين يحضرون حفلاتها الصغيرة في منزلها، تصالحه بأغنية «تعالى يا شاطر نروح القناطر».
هذا المستوى من الأغاني، وطلب السميعة له، وسيادته على جميع الألوان الفنية الأخرى، جعل سيد درويش قبل وفاته، يجاريه مرغما حتى يستطيع العيش، فلحّن أغاني على شاكلة «الأستيك فوق صدري بيضوي» و«يا أنا يا إنت يا واد يا مأطأط»، وهو ما يرصده توفيق الحكيم في كتابه «سجن العمر» ويكشف سر الإقبال على رواية كشكش بيك، التي لحنها درويش لنجيب الريحاني، لمشاهدة الراقصات الجميلات الشقراوات الوافدات على مصر، عقب الحرب العالمية الأولى، وليس حبًا في الرواية نفسها.
في هذه الأجواء الصعبة، قررت الآنسة الشابة أم كلثوم خوض التحدي ضد الجميع، ورفعت شعار: ليس مهمًا أن أكون مطربة من الدرجة الثالثة، المهم ألّا أبقى في الدرجة الثالثة، ولم تبق إلا نجمة ولكل العصور، وكوكب يزهي وجدان الشرق.
كان «السميعة» يطلبون من الوسط الذي ستغني فيه أم كلثوم، أغنية الموسم عام 1925، وتقول كلماتها: «إيه اللي جرى في المندرة، شيء ما أفهموش، أنا كنت لسه صغيرة»، بينما كانت منيرة المهدية سلطانة الطرب وملكة عرش الفن، عندما يغضب منها أحد الوزراء الذين يحضرون حفلاتها الصغيرة في منزلها، تصالحه بأغنية «تعالى يا شاطر نروح القناطر».
هذا المستوى من الأغاني، وطلب السميعة له، وسيادته على جميع الألوان الفنية الأخرى، جعل سيد درويش قبل وفاته، يجاريه مرغما حتى يستطيع العيش، فلحّن أغاني على شاكلة «الأستيك فوق صدري بيضوي» و«يا أنا يا إنت يا واد يا مأطأط»، وهو ما يرصده توفيق الحكيم في كتابه «سجن العمر» ويكشف سر الإقبال على رواية كشكش بيك، التي لحنها درويش لنجيب الريحاني، لمشاهدة الراقصات الجميلات الشقراوات الوافدات على مصر، عقب الحرب العالمية الأولى، وليس حبًا في الرواية نفسها.
في هذه الأجواء الصعبة، قررت الآنسة الشابة أم كلثوم خوض التحدي ضد الجميع، ورفعت شعار: ليس مهمًا أن أكون مطربة من الدرجة الثالثة، المهم ألّا أبقى في الدرجة الثالثة، ولم تبق إلا نجمة ولكل العصور، وكوكب يزهي وجدان الشرق.