محنة الحديث النبوي (8)
في مسألة تقديس أسانيد الأحاديث النبوية، وترك المتون بدون تمحيص، وإعمال للعقل، وعرض على القرآن الكريم، علينا أن نتساءل: هل الصحابة – كلهم – علماء؟، هل كلهم، رضوان الله عليهم، فقهاء؟، هل جميعهم حكماء؟، هل هم نجباء؟، هل كانوا جميعًا، رحمهم الله، على نفس المستوى الفكري والثقافي؟.
ألم يقلْ المولى، جلَّ وعلا، في كتابه العزيز: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ".. ألم يكنْ ذلك الفاسقُ صحابيًّا؟!
ألم يقلْ الله سبحانَه، في سورة "التوبة": "وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ"، و"وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"؟!
وفي سورة "النساء": "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا".
وخصص الله تعالى سورة كاملة باسم "المنافقين"، قال فيها: "إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ".
ألم يكن بين الصحابة "معوِّقون"، ومن "يَلْمِزون النبيَّ ويقولون هو أُذُنٌ"، ومَنْ كانَ "في قلبه مرضٌ"؟! ألم يكن بينهم "المؤلفة قلوبهم" (أي: كان النبي يأتلف قلوبهم بالمال)؟! ثُمَّ ألم يرتد بعضُهم بعد انتقاله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الرفيق الأعلى؟!
إذن من غير المنطقي أن يكون الصحابة كلُّهم، على أفضليتهم، على نفس الدرجة من الثقة، وعلينا أن نراجع المتونَ التي رووْها، فالذاكراتُ تتفاوت، والمقدرة على الحفظ تختلف من شخصٍ لآخر، وكذلك الفهم والاستيعاب، بل والثروة اللغوية، وبعضهم كان يقرأ ويكتب، والبعض الآخر كان أُميًّا.. "أبو هريرة"، نفسه، كان أميًّا، ومع ذلك فقد روى آلاف الأحاديث!!
لن نتكلم عن وقائع الفتنة الكبرى التي قاتل فيها الصحابة بعضهم بعضًا، وكفَّروا بعضهم بعضًا، وكادوا وتآمروا، واخترعوا أحداثًا، وروايات؛ لتقوية مراكزهم في مواجهة إخوان الأمس!
لكن كيف نثق بكلام من رَضِيَ باغتيال الإمام على بن أبي طالب، بل وأشادَ بقاتله، ووصفه بأنه أرادَ رضوان ذي العرش؟! ومن قتلَ طلحة بن عبيد الله، ومن قتلَ الإمامَ الحسينَ، السبطَ الكريمَ، رضوان الله عليه؟!.. في الوقت الذي تَجَنَّبَ فيه البخاريُّ ومسلمٌ، علماءَ وحفاظًا كـ "حماد بن سلمة"، ومكحول"!
ومصداقًا لما نقول؛ روى مسلم: "ليردَنَّ عليَّ ناسٌ من أصحابي حتَّى إذا عرفتُهم اختلجوا من دوني، فأقولُ: أصحابي! فيقول: لا تدري ماذا أحدثوا بعدك".
يقول الدكتور طه حسين، في كتابه "عثمان":
"...... فنحن لا نحب الكسل ولا نطمئن إلى الراحة، ولا نغلو في تقديس الناس إلى هذا الحد البعيد، ولا نرى في أصحاب النبي ما لم يكونوا يرون في أنفسهم، فهم كانوا يرون أنهم بشر فيتعرضون لما يتعرض له غيرهم من الخطايا والآثام، وهم تقاذفوا التهم الخطيرة، وكان منهم فريق تراموا بالكفر والفسوق..
فقد رُوِيَ أن عمار بن ياسر، رضي الله عنه، كان يكفِّرُ عثمان، رَضِيَ الله عنه، ويستحل دمه، ويسميه "نعثل" (أي: الشَّيْخُ الأَحمق) أو (الأعرج)، ورُوي أن ابن مسعود، رضي الله عنه، كان يستحلُّ دمَ عثمان أيامَ كان في الكوفة، وهو كان يخطبُ الناسَ فيقول: إن شرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكل محدثةٍ بدعةٌ، وكل بدعةٍ ضلالةٌ، وكل ضلالةٍ في النار، يعرِّض بذلك بعثمان وعامله الوليد.
وروي أن عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، قال لبعض أصحابه في المرض الذي مات فيه: عاجلوه – يقصد عليًّا – قبل أن يطغى ملكه.
والذين ناصروا عثمان من أصحاب النبي كانوا يروْن أن خصومَهم قد خرجوا على الدين وخالفوا عن أمره، وهم جميعًا من أجل ذلك، قد استحلوا أن يقاتلَ بعضُهم بعضًا، وقاتلَ بعضُهم بعضًا بالفعل يوم الجمل ويوم صفين، إلا ما كان من سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، وأصحابه القليلين.
وإذا دفع أصحابُ النبي أنفسهم إلى هذا الخلاف، وتراموا بالكبائر، وقاتلَ بعضُهم بعضًا في سبيل الله، فما ينبغي أن يكون رأيُنا فيهم أحسنَ من رأيهم في أنفسهم، وما ينبغي أن نذهبَ مذهبَ الذين يكذبون أكثر الأخبار التي نقلت إلينا ما كان بينهم من فتنة واختلاف، فنحن إن فعلنا ذلك لم نزد عن أن نكذب التاريخ الإسلامي كله منذ بعث النبي.. لأن الذين رَوَوْا أخبار هذه الفتن هم أنفسهم الذين رووْا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي والخلفاء، فما ينبغي أن نصدقهم حين يروون ما يروقنا، وأن نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا، وما ينبغي أن نصدق بعض التاريخ ونكذب بعضه الآخر، لا لشيء إلا لأن بعضه يرضينا ويعضه يؤذينا..
وما ينبغي، كذلك، أن نصدق كل مايُروى، أو نكذب كل ما يُروى، وإنما الرواة أنفسهم ناس من الناس يجوز عليهم الخطأ والصواب، ويجوز عليهم الصدق والكذب، والقدماء أنفسهم قد عرفوا ذلك وتهيأوا له ووضعوا قواعد الجرح والتعديل، والتصديق والتكذيب وترجيح ما يمكن ترجيحه، وإسقاط ما يمكن إسقاطه، والشك فيما يجب الشك فيه".
عن ابن أبي كريمة، عن جعفر، عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: أنه دعا اليهود فسألهم فحدثوه حتى كذبوا على عيسى، فصعد المنبر، فخطب الناس، فقال: إن الحديث سيفشو عليَّ، فما أتاكم عني يوافق القرآن، فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس عني.
وكان عمر بن الخطاب لا يقبل الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلا بشاهدين. وكان علي بن أبي طالب لا يقبل الحديث عن رسول الله، بسهولة.