رئيس التحرير
عصام كامل

من المؤمنين رجال..


يقول تعالى: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه" صدق الله العظيم.. هؤلاء الرجال هم أهل محبة الله وولايته، وهم عباده المؤمنين المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. منهم القطب الرباني والولي الصمداني كهف الأولياء وإمام عصره وخامس الأقطاب السيد الشريف الذي يصل نسبه للإمام الحسن بن على، سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنه..


الإمام أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه هو على بن عبد الله بن عبد الجبار بن تميم بن هرمز بن حاتم بن قصي بن يوسف بن يوشع بن ورد بن بطال على بن أحمد بن محمد بن عيسى بن إدريس بن عمر بن إدريس بن عبد الله بن حسن المثنى بن الإمام الحسن بن أمير المؤمنين الإمام على بن أبي طالب كرم الله وجهه..

ولد رضي الله عنه سنة ٥٩١ هجري بقرية من قرى قبيلة غمارة ببلاد المغرب، وهي قرية قريبة من مدينة سبته بتونس، من أبوين شريفين، ونشأ نشأة دينية، حفظ القرآن الكريم وهو ابن السابعة، ودرس علوم الشريعة، وبرع فيها براعة شديدة، ودرس علم الكيمياء وعلوم أخرى، أحب الخلوة والاشتغال بذكر الله تعالى، ومال قلبه إلى طريق الصوفية، وأهل الله وكان شغوفا بالبحث عن قطب الوقت وهو الرجل الوارث المحمدي في زمنه، فتنقل من بلد إلى بلد بحثا عنه..

وفي يوم قابله أحد الأولياء في العراق فقال له إنك تبحث عن القطب بالعراق مع أن القطب ببلادك فارجع إليها تجده، فعاد إلى غمارة بتونس، وتعرف على قطب الوقت سيدي الشيخ عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه، ولازمه وأخذ عنه الطريق وتربى على يده وقد تنبأ له الشيخ عبد السلام بالفتح الكبير، وأمره أن يرتحل إلى بلد تسمى شاذلة، وقال له: "إن الله يسميك بالشاذلي نسبة إليها فارتحل إليها"..

ومكث فيها في جبل يسمى بجبل زغوان جنوب مدينة تونس، واتخذ فيها خلوته بعد اعتزاله الناس وتفرغ فيها للعبادة والذكر، وظل على هذا الحال إلى أن رأي شيخه ابن مشيش يأمره بالانتقال إلى أرض المشرق وبشره بالفتح الأكبر فيها، فسافر إلى الإسكندرية بمصر المحروسة عام ٦٤٢هجرى الموافق ١٢٤٤ ميلادي، وكان معه جماعة من العلماء والصالحين منهم الشيخ أبو العباس المرسي وأخوه أبو عبد الله جمال الدين محمد.

ومنها توجه إلى الحج وعاد إلى تونس وقام بها زمن يسير ثم لحق به الشيخ المرسي ووفدوا جميعا إلى مصر، ومكث فيها حتى توفاه الله، أسس رضي الله عنه الطريقة الشاذلية بمصر، والتي شاء الله تعالى لها أن تبقى وتنتشر في ربوع الأرض إلى وقتنا هذا..

وللشيخ الشاذلي مجموعة أوراد وأذكار خاصة منها حزب البر، وحزب البحر، وحزب النصر، وحزب الفرج، وحزب الفتح، ومجموعة الأحزاب المسماة بالآيات وهي خمسة وعشرون حزبا.. وكان له أذكار وأدعية خاصة تسمو بالروح وتحرك القلب..

وللشيخ أقوال وفيوضات ربانية منها قوله: "قيل لي يا على طهر ثيابك من الدنس تحفظ بمدد الله في كل نفس فقلت وما ثيابي فقيل لي أن الله كساك حلة المعرفة ثم حلة المحبة ثم حلة الإسلام، فمن عرف الله صغر لديه كل شيء، ومن أحب الله هان عليه كل شئ، ومن وحد الله لم يشرك به شيء، ومن آمن بالله آمن من كل شيء، ومن أسلم لله قل ما يعصيه، وإن عصاه اعتذر إليه، وإن اعتذر إليه قبل عذره".

فقال الشيخ ففهمت من ذلك معنى قوله تعالى (وثيابك فطهر)، وللشيخ الشاذلي كرامات أكثر من أن تحصى، وكان من أهل النور والفراسة، ومن ذلك عندما أقبل عليه فقهاء الإسكندرية مختبرين له بعد أن ذاع صيته فيها، فتفرس فيهم وسألهم، هل صليتم قط، فقالوا: هل يترك أحدنا الصلاة؟.

قال لهم: يقول الله تعالى في وصف المصلين (إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين).. فهل أنتم كذلك، إذا مسكم الشر لا تجزعون، وإذا مسكم الخير لا تمنعون، هذا حال المصلين فهل هذا حالكم فسكتوا جميعا..

هذا ومن أقواله رضي الله عنه: استعذ بالله من شر الدنيا إذا أقبلت، ومن شرها إذا أدبرت ومن شرها إذا أنفقت ومن شرها إذا أمسكت، وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصاني فقال: لا تنقل قدميك الا حيث ترجو ثواب الله، ولا تجلس إلا حيث تأمن من معصية الله، ولا تصحب إلا من تستعين به على طاعة الله، ولا تصطف لنفسك إلا من تزداد به يقينا..

وقال رضي الله عنه: إن من أعظم القربات عند الله تعالى مرافقة النفس بقطع إرادتها، وطلب الخلاص منها بترك ما تهوى لما يرجى من حياتها، وقال رضي الله عنه: إذا ضيق الله عليك أيها المريد وسد عليك أبواب الرزق وقسي عليك قلوب عباده، فاعلم أنه يريد أن يواليك أثبت ولا تضجر، وقال يتقلب العبد ما بين القبض والبسط، والحق عز وجل يقضي منك العبودية فيهما فمن كان في حال القبض فليعلم أن أسبابه ثلاثة، ذنب أحدثه أو دنيا ذهبت عنه أو ظالم يؤذيه في ماله ونفسه، فإن كنت أذنبت فاستغفر، وإن كنت ذهبت عنك الدنيا فارجع إلى ربك، وإن كنت ظلمت فاصبر واحتمل، واحذر أن تظلم نفسك فتنتصر لها..

هذا وإذا ورد عليك قبض ولم تعلم له سبب فالوقت وقتان ليل ونهار، فالقبض أشبه بالليل، والنهار أشبه بالبسط، وإذا ورد عليك القبض بغير سبب تعلمه فالواجب عليك السكون في ثلاث في القول والحركة والإرادة..

وقال إياك والاختيار والتدبير، وإن كان لك، لا بد أن تدبر فدبر على ألا تدبر واختر على ألا تختار، وقال السعادة في الرضا والراحة في التسليم، هذا وفي آخر رحلة له للحج مرض الشيخ فسأل الله تعالى أن تقبض روحه الطاهرة في أرض لم يعص بها فتحقق له ذلك وتوفي حميثرة بصحراء عيذاب في أول ذي القعدة عام ٦٥٦هجري، ودفن الجسد الطاهر بأرضها، وله مقام مشهور بها.

وقد عمرت الصحراء وأصبحت قرية حميثرة فيها معيشة وحياة ببركة الشيخ رضي الله عنه وأرضاه، وأصبح مرقده الشريف عامرا بزواره من شتى بقاع الأرض، وفي الختام أسأل الله جل وعلا أن يديم علينا محبة الصالحين ومودتهم وأن يحشرنا معهم.
الجريدة الرسمية