«خلف أسوار الكتابة».. قصة إحسان عبد القدوس من تجاهل والدته لبوابة السجن
لم يكن من السهل أن يقتنص الكاتب الراحل إحسان عبد القدوس، اعتراف والدته بموهبته الكبيرة، وذلك بحسب ما نشرته مجلة الجديد عام 1975، في بعض من مذكرات عبد القدوس التي جمعها الصحفى محمد الشناوى.
عدم اعتراف
فكتب إحسان يقول:
لم تعترف أمى بكل ما كتبته في مجلتها من قبل، ولم تعترف بشهادة الليسانس التي حصلت عليها من كلية الحقوق، ولم يكن كل هذا كافيا لأن تثق في أن ابنها أصبح قادرا على قيادة مجلتها.
كانت تؤمن أن المناخ السياسي الذي يعيش فيه الشعب إذ ذاك لا يسمح بأى نوع من المهادنة أو أنصاف الحلول، وعلى حامل القلم أن يقول صراحة عن طريق قلمه.. هل هو مع الشعب أم ضده ؟ وكان على أن أنتظر حتى تأتى المعركة الحقيقية التي أحدد فيها موقعى بشجاعة، ولم يكن ممكنا أن أفتعل معركة كاذبة لن تنطلى على ذكاء فاطمة اليوسف.
"جريمة أولى صحافة"
انتظار طويل قضاه عبد القدوس، يبحث فيه عن الفرصة التي قد يثبت بها جدارته لوالدته، فيقول:
عندما لاحت لى الفرصة ضربت ضربتى، وكان الثمن أول قرار بالقبض على في جريمة رأى، ثم خرجت من السجن لأجد في انتظارى رئاسة التحرير.. ومن هنا وجدت نفسى مندفعا في الطريق إلى النهاية.. وكانت النهاية هي قيام ثورة يوليو 1952.. كانت أمى وأستاذتى قد تركت لى حرية التصرف تماما، لكنى كنت أشعر أنها تراقبنى في صمت، ويحلل عقلها في هدوء كل حركة أتحركها، وكل كلمة اكتبها وكان سكوتها يعنى أننى على طريق الصواب وأننى ما زلت منحازا لصف الشعب.
الجملة التي صفعته في زنزانة ١٩
انحياز عبد القدوس للشعب خلال الثورة، جعلت منه فيما بعد نزيلا لزنزانة رقم ١خ في السجن الحربي عام ١٩٥٤، فيقول عن تلك الفترة:
تساءلت عن موقف الأم والمجلة مما حدث.. لكن الخوف كاد يعصف بى عندما اكتشفت وأنا في السجن بأمر ثوار الأمس وحكام اليوم، إننى كنت حسن النية أكثر مما ينبغى، وإننى لم أدقق في جوهر بعض من وثقت فيهم دون حذر.. كان مبعث خوفى هو خشيتى من ثورة أمى وأستاذتى لأننى لم آخذ منهجها في الحذر نحو من أثبتت الحوادث وجوب أخذهم بالحذر الشديد، كانت تدوى بأذنى داخل الزنزانة عبارتها التي طالما صفعتنى بها إذا بدا لها في بعض ما أكتبه شيئا لا ترضى عنه وهى:
(قلمك ليس ملكا لك يا إحسان، أنه ملك القارئ.. إذا أردت أن تكون كما أريد لك فاذكر دائما أنك لا تكتب لنفسك، ولا تنطق عن هواك بل تكتب للناس أصحاب الحق الأول في كل حرف تنشره.. فلا تفرط فيما لا تملك وتهبه لمن لا يستحق).
وحينما كنت سجينا في السجن الحربى حبسا انفراديا كان قرار والدتى مقاطعة الثورة بكل ما فيها ومنع نشر أخبارها على صفحات مجلاتها.
مفاوضات هيكل
الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل، كان المفاوض الموفد من قيادة الثورة لروز اليوسف لإعادة النشر، فيقول عبد القدوس عن تلك الواقعة:
طلب المسئول الكبير في قيادة الثورة أن تذهب للقائه في مكتبه، فكان ردها باردًا وقاطعا فقالت: (إن كان يطلبنى كحاكم فروز اليوسف لا تسعى إلى الحكام.. لا عن رغبة ولا عن رهبة، وإن كان يطلبنى ليحدثنى حديث الأصدقاء فعلى أصغر الأصدقاء سنًا أن يسعى إلى أكبرهم، خاصة إذا كان المقر مجلة طالما سعد بالذهاب إليها والسهر فيها).
وتفاجأت أمى ذات يوم بدخول زائرين غريبين عليها، أحدهما الرقيب العسكري على الصحافة والثانى هو الصحفى محمد حسنين هيكل الذي عمل من قبل في روز اليوسف، وقد عرفت هيكل جيدا كما عرفته أمى من قبل.
كان هيكل رسولا موفدا من قيادة الثورة ليتفاوض معها لرفع الحظر الذي فرضته مجلتها على أخبار الثورة ورجالها، وأيضًا طلب البعد عن العناوين الصارخة التي تحمل تلميحا فجا.
لكن أمى أنهت اللقاء بحسم قائلة: (إننى لم أساوم على موقف اتخذه مجلس تحرير روز اليوسف وأيدنى فيه كل محرريها الشرفاء ولن أساوم حتى كان الثمن حرية ولدى الوحيد وحياته.. وابنى لم يعد طفلا في حاجة إلى وصاية عليه).. هكذا ربتنى أمى.