أهلكنا المحصول وخسرنا الرهان!
نشأت في زمان أشتاق إلى كل دقيقة مضت منه، اشتياق الظمآن إلى الماء، ورغم إنه ليس بالبعيد، لكن ما أشاهده كل يوم من تغيير، يزيد الهوة بين الحاضر والماضي، ولعل من أهم ظواهر هذا الوقت بزوغا، ما أُطلق عليه في تقديري "سيولة المناصب"، حيث لم تعد للمناصب هيبة، وبات كل مسئول ينتظر رحيله في أي وقت.
شهدنا اعتذار الكثير من أفذاذ هذا الوطن عن تولي الكثير من المناصب، وضاع تحت أقدام هذه الظاهرة أهم شيء وهو الأمل، الأمل في غدٍ أفضل، اندثر معه حلم التقدم والنهضة والرفاهية، بل ضاع حلم نزوحنا من جلباب الدول النامية المهلهل، والذي لا يليق بِنَا، حضارة وموارد وشعب!
كنت أحلم بمستقبل له تفاصيل مختلفة، تعليم أفضل ومدرسون أكثر ثقافة ووسائل تعليمية ذكية، وفصول بها عدد محدود من الطلاب وفناء مدرسي واسع جميل ويوم دراسي ممتع جاذب للتلاميذ!.. كنت متشوقا لمجتمع به صناعة حقيقية ومصانع لديها إمكانيات فائقة في كل المجالات وذات منافسة عالمية، كنت أطمع أن تزيد المساحة الخضراء على جانبي النيل، وتمتد عمقا داخل الصحراء الشرقية والغربية، كنت أنتظر يوما تنتشر فيه مكارم الأخلاق والعفة والأدب في كل بقعة من أرض مصر، كنت أتطلع لاستحقاق طبيعي، أن تصبح مصرنا منارة للعلم والثقافة والفنون والآداب وبيت الإعلام الهادف الأول وقاطرة الرياضة النظيفة!
كنت أريد يوما تتحقق فيه الحياة الكريمة لكل مواطن، حتى لا يضطر لأن ينتحر هروبا من ضيق الحياة، أو على أقل تقدير أن لا يتسول في الشوارع، مثلما فعل الفنان الكبير فريد شوقي مضطرا في فيلم "الموظفون في الأرض"، وقد كان موظفا كبيرا في الحكومة بدرجة مدير عام، رفض أن يكون مرتشيا وجسد بعبقرية شديدة واقعا مُرا، ولعل أحداث هذا الفيلم ترجع إلى عام ١٩٨٤، أي منذ قرابة ٣٥ عاما تقريبا، والمُؤلم أن تجد نفسك تتمنى أن يعود بك الزمان إلى هذا الزمن! ولقد وجدت في هذا الفيلم ضالتي، فقد كنت دائما أتعجب من الحال الذي وصلنا إليه، وما هو السبب أو الأسباب إلى ذلك!
خلال أحداث الفيلم، استوقفني مشهد هام لم يتجاوز الدقيقتين، تولى فيه الموظف المرتشي السلكاوي الذي جسد شخصيته الفنان "سمير صبري" منصب وكيل الوزارة، وقام الموظف الأمين الأكثر كفاءة "فريد شوقي" بإجازة بدون راتب، رافضا كل الضغوط التي تجعل منه "سلكاوي"، وعمل خلال هذه الإجازة "شَحات" رغم أحقيته بالمنصب، هنا تذكرت مثلا كنت دائما أسمعه وأنا صغير دون فهم عميق باللغة العامية "خرج الحصان للحرت وخرج الحمار للسبق، خِرب الزرع وخسر السبق"، وباللغة الرصينة "خرج الحصان للحرث وخرج الحمار للسباق، فهلك المحصول وخسرنا السباق!".
فعندما أخذ الحمار دور الحصان في المارثون، وظن أنه يستطيع أن يفعل مثل الحصان وأكثر، أصبحنا نشتاق إلى كل شيء كنّا نتمني غيره في الماضي، نشتاق إلى أخلاقيات شوارع كنّا لا نقبلها، نشتاق إلى منتجاتنا المحلية التي كنّا نتطلع لغيرها، من المأكولات والمشروبات والغزل والنسيج، نشتاق إلى محاصيلنا الزراعية من القمح والخضراوات والبطاطس والطماطم، نشتاق إلى مدراسنا وجامعتنا الحكومية القديمة.
أصبحنا نشتاق إلى الفن الهادف وفنانين الأبيض والأسود، بعد أن كان التليفزيون الملون حلما، أصبحنا نتمنى العودة إلى إعلام القناة الأولى والثانية الأرضي، بعد أن ذهبت بِنَا الأقمار الصناعية إلى مستنقع تُصدر من خلاله كل مبتذل، ويأخذنا إلى عالم نقلد منه كل قبيح!.. ندعو الله أن يصيبنا بطفرة جينية محمودة، تنهي هذه الظاهرة التي ضيعت أحلامنا.