الانقلاب على الديمقراطية
ما يحدث في فرنسا هو بلا أدنى شك "استخدام أدوات غير سلمية للتغيير" أو خروج عن نطاق التظاهر السلمي للوقوف ضد رفع أسعار المحروقات، وهو بالتأكيد منحى جديد يهدد فكرة التداول أو التغيير بالوسائل السلمية المتعارف عليها، وفق النهج الديمقراطي الذي أضحى تجربة ناضجة في أوروبا، ومن ثم فإن الأمر سيضع صانع القرار السياسي في أوروبا أمام منحى جديد للتعامل مع الواقع الجديد، لما يمكن أن نسميه "الجماهيرية"!!
ينظر العالم إلى ما يحدث من تنظيم "السترات الصفراء" غير الحزبي بترقب شديد؛ لأنه يضع التجربة الديمقراطية في مختبر جديد وخطير، وهو الأمر الذي دفع وزير الداخلية الفرنسي "كريستوف كاستانير" إلى القول إنه يدرس كل الخيارات، بعد أن ثبت لقوات الشرطة أن هناك أكثر من ثلاثة آلاف فرنسي خرجوا على القانون، ومارسوا العنف خلال هذه التظاهرات، وهو ما يراه الوزير أمرا صعب المواجهة، وأنه قد يلجأ إلى النظر في أمر فرض حالة الطوارئ.
الصور المتداولة تؤكد أن هناك خروجًا على القانون، وأن هناك عمليات سلب ونهب وحرق وتدمير، وكلها أمور تدخل في باب الجريمة التي تفرض على الدولة أن تتخذ من الإجراءات ما يمكنها من حماية المنشآت والممتلكات، وذلك باستخدام الطوارئ إن لزم الأمر، وهو ما لم يتخذ حتى تاريخه، رغم بشاعة ما تتناقله الفضائيات ووكالات الأنباء من حالة تعدٍ غريبة ومزعجة، في مجتمع يستطيع التغيير عندما يشاء ذلك، عبر وسائل أنتجتها التجربة الديمقراطية المدهشة لفرنسا الحريات.
وزير الداخلية قال مطمئنًا الناس: إنه نشر أكثر من ٤٦٠٠ فرد من قوات الشرطة، وهو رقم على ما يبدو كبيرا في حسابات الفرنسيين، على أن ماكينة العمل السياسي والتحرك إلى الجماهير من قبل الرئيس وحزبه لا تتوقف، وذلك كله في إطار الاستخدام المفرط لأدوات السياسة، وفي ذات الوقت الاستخدام الرشيد لأدوات المواجهة الأمنية رغم صعوبة الأحداث وخروجها إلى حدود مرحلة الخطر الداهم على أمن البلاد.
"المؤامرة" مصطلح لم يغب عن الأزمة الفرنسية، إذ بدا أن تداوله أصبح أكثر إلحاحا أمام تظاهرات تطالب بعدم زيادة المحروقات، ونظام حكم يحاول إقناع الجماهير بغير ذلك، وما بين الموقفين يبدو واضحا أن هناك قوى أخرى على الخط، واليمين المتطرف ليس بعيدا عنها، غير أن تداول مصطلح المؤامرة يوحي دوما أن هناك قوى دولية قد دخلت على الخط، وربطت بين موقف الرئيس الفرنسي من أمريكا ودعمه لفكرة الجيش الأوروبي المشترك وبين موقف أمريكا من هذا الأمر.
التظاهرات ستهدأ بالطبع، و"ماكرون" بعد "السترات الصفراء" سيكون غير الذي كان قبلها، وأظن أن أهم ما يمكن متابعته هو كيفية تعاطي النظام الذي يمتلك أدوات كثيرة لفرض الأمن مع تنظيم ظهر فجأة، وبدا واضحا أن مطالبه تتمدد يوما بعد يوم، بعيدا عن العقل والمنطق والواقع، ومع ذلك فإن النظام يتعامل- رغم تسارع الأحداث- وفق أجندة أكثر عقلانية وهدوءا، لدرجة أن وزير الداخلية يعدُّ نشر ٤٦٠٠ فرد أمن بالعاصمة الفرنسية باريس أمرا جللا.
وإذا كانت هناك مؤامرة قد حيكت بليل؛ فإن مثل هذه المؤامرات لا يمكن أن تظهر إلى الوجود بين يوم وليلة، دون اختراق حقيقي للمجتمع الفرنسي، وفق ما تمسكت به، انطلاقا من واقع حقيقي كبعض الأنظمة العربية تحت الشعار الأمريكي "الفوضى الخلاقة"، التي كنا نظن أن مجتمعات العوز والحاجة والفقر الأكثر اختراقا بها، حتى بات النموذج الفرنسي أكثر غموضا، حيث يعيش هذا المجتمع وفق آليات أكثر نضجا..
خاصة وأنه هو من يصيغ ويخلق النظام الذي يريده من خلال صناديق الاقتراع، ذلك النموذج الأكثر مثالية في حكم العباد حتى تاريخه.
يقيني أن ظهور "السترات الصفراء" على هذا النحو سيصبح مادة للجدل والنقاش والحوار في مؤسسات سياسية وأحزاب وهيئات وجامعات على مدى السنوات المقبلة، بل وربما يعيد التأسيس للنموذج الديمقراطي الغربي، وما يمكن أن يطرأ عليه من تغييرات، خصوصا وأن مؤسسات الفكر السياسي وصناع السياسة في العالم أصبحوا أمام نموذج جديد للتحرك الجماهيري، تتغير مطالبه عكس استجابات الدولة بشكل يدعو إلى القلق، وإعادة صياغة أدوات الحكم الديمقراطي لحماية الدولة الوطنية، بل وحماية النموذج السلمي للتغيير.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تجربة "السترات الصفراء" ملهمة إقليميًّا ودوليًّا؟.. أظن أن الصور المتداولة والمتابعة المباشرة لما يجري في فرنسا من شأنه أن يمنح الأنظمة السياسية سلطات أوسع، قد يكون من شأنها صياغة تعريف جديد لمعنى الحريات، وهو ما يصب في صالح التطرف بكل ألوانه وأنواعه وبواعثه، خصوصا وأن بلاء اليمين المتطرف ينهش في عظام القارة العجوز، وينشب أظافره في مفاصلها بشكل يدعو للقلق.