سليم عزيز.. المواطن مصري
قاعة كبرى بإحدى كنائس القاهرة الكبرى.. القاعة مكتظة حتى آخرها.. علامات الوجوم تسكن الجدران ووجوه الناس.. حالة من الحزن النادر تغلف المكان.. كان الجسد المسجي محولا إلى هناك أمام الجميع.. العيون الجاحظة ترنو إليه في لحظة وداع صادقة.. فتيات ونساء محجبات كن الأغلبية.. لحظة ليست غريبة غير أنها تختزل ما كان وما هو كائن.. تكشف عن معدن الإنسان حال كونه إنسانا بعيدا عن الدين والجلبة التي صنعها دين وافد علينا.
كان المنتقل هو السيد سليم عزيز.. مواطن مصري وهب حياته للناس صانعا عظيما يؤمن أن هذا البلد لن يقوم بغير الإنتاج.. كرس كل عمره لرسم أيقونة إنسانية مدهشة.. ابتنى المصانع وعلم الناس.. كل الناس وقدم نموذجا للحارس على أموال الله.. كان مؤمنا بأنه لا يملك وإنما فقط هو مؤتمن على مال وهبه الله له ليرى ماذا سيصنع بها.. في الوقت الذي انتشرت فيه هوجة انفتاح أعمى كان هو هناك يقف خلف ماكينة تصنع الخير للوطن غير عابئ بمن يكتنزون المال أو يكسبونه بفهلوة طغت وأصبحت شعارا.
إنه واحد من صناع مصر.. عرفت ابنه هاني قسيس.. شاب متألق.. تعلم في أبهى جامعات العالم.. لحظات عمره الصادقة تلك التي يقضيها بين العمال.. عرفت أن والده انتقل إلى رحمة ربه.. ذهبت مع الذاهبين لأداء واجب العزاء ولم يكن لدى من المعلومات ما يكفي لكي أعرف رجلا كيف يعيش في قلوب الناس وهو يغادر مغلقا خلفه باب الحياة الدنيوية ليبدأ رحلة الخلود روحا طاهرة تركت في أوساط البسطاء علامة وآية.
ولأن الراحل زرع في أسرته فلسفة للحياة بأنك لا تحيا دون أن يحيا الناس؛ فإن أبناءه استمروا على الدرب.. عمال مصانعهم شركاء لا أُجراء ليبقى المال وظيفة لا غاية.. وسيلة لا هدف.. أكمل الجيل الجديد مسيرة البناء التي وضع لبنتها معلمهم ومرشدهم.. شرع هاني وأشقاؤه في مسيرة الصناعة مهما كانت الصعوبات ومهما كانت التحديات.
هناك وعلى مقربة من محور المشير وبالتحديد في المنطقة الصناعية بمدينة نصر ستقف مشدوها وأنت تشعر بضآلتك أمام بناء شاهق لأكبر مصنع للأحذية الرياضية في الشرق الأوسط.. في أقل من عام كانت صحراء قاحلة فأضحت بناء عظيما ينتظر أدق تكنولوجيات العالم وخبراء من كوريا وفيتنام يشرعون في تدريب المهندسين المصريين لينطلق واحد من قلاع الصناعة في المنطقة بأسرها.
التقديرات الأولية تؤكد أن القلعة الجديدة سيلتحق بها أكثر من خمسين ألف امرأة وفتاة في واحدة من أكبر الصناعات استيعابا للعمالة.. مهندسون ومصممون وعمال وعاملات لنواجه غول الاستيراد بعد أن أكدت الإحصائيات أننا نستورد قرابة ٨٥٪ من استهلاكنا من الأحذية الرياضية.. بعد شهور وربما أيام ينطلق الحذاء المصري في أسواقنا حاملا كل العلامات العالمية ووفق أحدث منظومة للتكنولوجيا في العالم.. قلعة ليست من بناء هاني قسيس وإخوته.. إنها إحدى ثمار ما زرع الرجل الكبير.. سليم عزيز.