خاشقجي.. عندما يجهل المرء قواعد اللعبة!
عندما تقرر خوض غمار معركة بعينها، لا بدَّ وأن تدرك قواعد الحرب، وإذا أردت اللعب لا بدَّ وأن تعرف قوانين اللعبة، ومن يغفل عن القواعد عليه أن يتحمل التبعات.. "جمال خاشقجي" لعب أكثر من دور، وانقلب في كل الأدوار التي لعبها، متصورًا أنه قادر عليها؛ فكانت النتيجة اختفاءً غامضًا، لا يستطيع أحد أن يحدد معالمه أو أسبابه أو نهايته.. هل قتل "خاشقجي"؟!! لا أحد يستطيع أن يقدم معلومة موثقة.
ما يقال عن مقتل "خاشقجي" في القنصلية السعودية بإسطنبول ليس هناك دليل دامغ عليه، ومن يقرأ سيرة المختفي "جمال خاشقجي" يدرك للوهلة الأولى أنه قد يكون مطلوبًا من أكثر من دولة، بعد أن عبث بملفات كثيرة، وقضية خاشقجي ليست في لعبه دور المعارض القادم من رحم النظام، وإنما تعدى ذلك بكثير، إذ لا يمكن تصور أنه يعمل هكذا منفردًا أو يقود حروبه من منطلق ذاتي يحرص على الديمقراطية والعدالة، وكل ما كان يقوم به.
"خاشقجي" لعب بالنار، والنار تحرق مَن لا يعرف قواعد اللعب بها.. في قضايا الأوطان والحكام والتواصل مع أجهزة لا يمكن أن تضبط الإيقاع والقضية الرئيسية، في اختفائه تكمن في الأجندات التي عمل لصالحها؛ فقد تنقل الرجل بين تيارات وأنظمة وجماعات، ولم يكن كما كان يحاول إيهام نفسه وغيره.. مجرد معارض يمارس دورًا من أجل الحرية.. القضية أعقد من ذلك بكثير.
أتذكر مسئولًا يمنيًّا كبيرًا كان طالبًا بإحدى الجامعات المصرية، مارس دورًا تنويريًّا ومعارضًا للحكم في اليمن، عندما كان مقيمًا في القاهرة أيام الحرب أن دخلنا حربًا في اليمن.. رحل عبد الناصر، وأحس معظم الشباب اليمني أن الخريطة تتغير وأدار اليمن حوارًا مع مصر بشأن المعارضين.. كان الشاب اليمني ناصريًّا بالدرجة الأولى، وأحس مع زملائه أن نهايتهم قد أوشكت، وكانت المفاجأة عندما طلب اليمن استعادة هؤلاء الشباب.
قال السادات عبارة خالدة: "لن أسلم أبنائي اليمنيين فيذبحون كالدجاج"، وأدار حوارًا راقيًا أكد فيه أن هؤلاء الشباب يطمحون أن تكون بلادهم أرقى وأجمل، فلماذا ينظر إليهم على أنهم خونة.. لقد كانوا ضد التخلف والجمود وأرادوا لبلادهم أن تصبح قوة في محيطها تصب كل قواها في الصالح العربي القومي.. وأكد الشهيد العظيم محمد أنور السادات أن أمن هؤلاء الشباب من أمنه باعتباره أبًا قبل أن يكون رئيسًا.
تفهم اليمنيون ما قاله السادات، وعاد الشباب إلى بلادهم مكرمين، وانصهروا في تجربة بلادهم، وأصبحوا عونًا للحاكم والوطن، وظلوا على عهدهم، فلم ينكروا للسادات وقفته كما أنكر الناصريون تاريخ الرجل وشوهوه، ونالوا منه حيًّا وميتًا.. الأمر هنا مختلف؛ فقد كانت قناعات شباب اليمن تنطلق من حبهم لبلادهم، ورغبتهم في إعلاء شأنهم، وتحررها من الجهل والتخلف والجمود.
"جمال خاشقجي" أمره مختلف؛ فقد لعب على أوتار متناقضة، وعمل من عواصم لا يمكن تصور أنها ستتركك دون أجندة تتقاطع مع مصالحها فكان ما كان.. لا يمكن الحسم بالتورط السعودي في اختطافه أو قتله، ولا يمكن الجزم بسيناريوهات واضحة المعالم، وما يحدث الآن من حوار تركي سعودي شائك، مبعثه مواقف سياسية أكبر من قضية "خاشقجي"، كما أنه لا يمكن تصور عدد اللاعبين الدوليين على الخط ذاته.. خط المهمة التي كان يؤديها المختفي في ظروف غامضة.
ربما تحمل الأيام المقبلة حلًا للغز، وربما يظل طيفًا تُطرح قضيته بين الحين والآخر على المحافل الدولية أو على الداخل السعودي أن يصبح ورقة تستخدمها دول تدرك أن اختفاء الحقيقة أكثر تحقيقًا للهدف من كشف التفاصيل.. "جمال خاشقجي" ضحية جهله بقواعد اللعبة ليس إلا!!