من دفتر الزوج والأب.. كيف كان يوسف إدريس يتعامل مع عائلته
كان يوسف إدريس رمزًا أدبيًا فوق الوصف، أفنى حياته في حب الأدب، كتب بقلمه القصة القصيرة والمسرحية والرواية والمقال، كان مفكرًا وناقدًا متميزًا وأديبًا غير عادى، عاش حياة صاخبة مليئة بالمعارك الفكرية والأدبية والفنية، وإلى جانب كل هذا الصخب في حياته العملية، كان شخصًا غير في منزله وبين أسرته، هكذا تتذكره السيدة رجاء إدريس، رفيقة الكفاح وشاهدة العيان على حياة أحد أنبل من أنجبت مصر.
تعود السيدة رجاء بذاكرتها إلى الماضى في حوار لها مع مجلة كلام الناس، وبالتحديد إلى عام 1957، حيث اللقاء الأول، حينما قادها القدر لمقابلة فارس الأحلام، كانت في زيارة إلى شقة شقيقتها وهى ابنة الـ 17 ربيعًا، رآها إدريس صدفة، فقد كان جارًا لشقيقتها، وحينما تبادلا النظرات تسلل ذلك الشعور الخفى بالإعجاب في القلوب، وعبرت عنه النظرات، وبالرغم من أن إدريس كان يخشى الزواج نظرًا لكونه شخصية مركبة متقلبة، يخشى أن يرتبط بمن لا تستطيع التعامل مع هذه التركيبة الصعبة، إلا أنه بمجرد أن رأى السيدة رجاء، بدل كل آراءه، ورفع شعار «إما أن أتزوج هذه الفتاة أو لا أتزوج أبدًا»، وجمع الثنائى لقاء عابرا أعقبه زيارة لشقيقتها طلب فيها إدريس الجلوس مع رجاء مرة ثانية للحديث، ثم زار الأسرة في شقتهم بحى المنيل، وطلب من والدتها في رابع لقاء أن يتم الزواج بدون خطبة أو فستان زفاف أو حفل.
كانت رجاء مخطوبة إلى طبيب ثرى في الوقت الذي ظهر فيه يوسف في حياتها، فلم تتردد في الذهاب إلى الخطيب الثرى وخلع دبلة الخطوبة، مؤكدة له أن قلبها مع آخر، غضبت والدتها من تصرفها واعتبرته الجنون بعينه، ولكنها أصرت على الزواج، وتم الأمر بالفعل بالرغم من فارق السن الكبير بينهما، فقد كان إدريس آنذاك يبلغ من العمر 29 عاما ويعمل مفتش صحة بالدرب الأحمر براتب 29 جنيها بالشهر، عاشا معًا حياة سعيدة رغم العراقيل الكثيرة التي واجهتهما.
كانت أهم محطة في حياة الأديب الذي غير شكل القصة القصيرة في العالم العربي، هي محطة الزواج، فلولاه ما كان له أن يصل إلى ما وصل إليه، فقد وجد في زوجته العطاء والحنان والحب، فهو القائل بأن الأنوثة عطاء، وكانت هي خير مثال على ذلك، كان إدريس في منزله زوجًا غير تقليدي يعشق المنزل ويقدسه، وعنه تحكى السيدة رجاء في مجلة كلام الناس، كاشفة الجانب الإنسانى من إدريس، مؤكدة أنه رجل حنون عاطفى، ممتع وبه صفات جميلة يندر تواجدها في غيره، لم تجد يومًا صعوبة في التعامل معه، ولم لا؟ فقد كان يشعرها دومًا بأنها أهم شىء في حياته، يقدرها ويحترمها ولا يبخسها أي من حقوقها، وكان يؤكد لها مرارًا وتكرارًا، أنه لولاها في حياته لم يكن يستطيع مواصلة الكتابة ولكان انتهى، كانت هي مصدر الأمان له حتى أنه كان ينزل إلى الشارع إذا لم تكن هي موجودة في الشقة، ويعود حينما تعود، فقد كان يشعر بالراحة والاطمئنان بوجود زوجته، لم يكن قاسيًا أبدًا كما كان يتصور البعض، بل كان ثوريًا والفارق بين هاتين الصفتين كبير في نظرها، كما أنه كان رجلًا متعاونًا، فقد كان يساعدها في إعداد السفرة وعمل «السلطة»، كما أشارت ابنته في حوار بـ«الأهرام».
يوسف إدريس كان بيحب أسرته وبيته وبينتمى لعائلته الصغيرة وكان بيغمرنى بحبه، تتذكر السيدة رجاء رجلها الذي لم تنسها السنوات الطوال ذكراه، ولكن بالرغم من هذا الحنان الذي عاشت في كنفه إلا أن إدريس كفنان كان يحتاج إلى معاملة خاصة، وكانت السيدة رجاء أستاذة في هذا الأمر، وهذا لم يمنع من وجود قليل من المعاناة، فالفنان له طبيعة خاصة يعانى من آن لآخر من نوبة اكتئاب شديدة، ويرفض رؤية أحد، ولأنها بطبيعتها كانت مرحة ولديها مضاد فطرى من الاكتئاب كان يرتاح لرؤيتها، وهذا التكامل ساهم في نجاح علاقتهما، كما أن فهمها لطبيعة الفنان ساعد في إتمام دورها كزوجة على أكمل وجه، فهى تؤمن أن الفنان الحقيقي مرهف الحس ورد فعله على الأشياء دومًا عن الآخرين، ويحتاج إلى طريقة تعامل خاصة، وكانت أسوأ اللحظات التي يمر بها هي أن يظل دون كتابة لفترة طويلة، وكان يسعد حينما يفرغ من عبء الكتابة ويتحرر منها بعدما يظل حامًلا هذا العبء على مدار اليوم.
كان إدريس يهوى تصليح وفك الأجهزة الكهربائية قبل الدخول في الكتابة، وهوايته الوحيدة كانت حب العزلة، وبطبيعة الحال التدخين وتناول القهوة بشراهة فهما عادات ملازمة للكتابة، أما عن معجباته فحدث ولا حرج، فقد كانت هناك كثيرات ممن أعجبن به وكانت السيدة رجاء توصلهن إليه بنفسها بالتليفون، وكانت تحزن إذا غابت المعجبات لأنها كانت تعتبرهن صدى عمله، أما عن أكلاته المفضلة فقد كان عاشقًا لطبق الملوخية أو البامية، حيث تربى عليهما في قريته «البيروم» في الشرقية.
أما حكايته كأب تحكيها نسمة يوسف إدريس، مدرسة اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة، تلك النسمة التي كان يحلم بها دومًا قبل ميلادها فقد كان يتمنى إنجاب بنت ولكن زوجته كانت قد اتخذت قرارًا بعدم الإنجاب، ولكنه ألح عليها وفى قرارة نفسه كان يتمنى أن يكون المولود بنتًا، وبالفعل جاءت الرياح بما تشتهى السفن، فقد جاءت الابنة المنتظرة وبينها وبين إخوتها الأولاد نحو 14 عاما، وتصادف أن يكون يوم ميلادها عام 1973 هو يوم خروجه من السجن، لذا أطلق عليها اسم نسمة، فهى نسمة الحرية التي استنشق عبيرها بعدما أطلق سراحه، كانت نسمة الطفلة تحب العرائس وكان يشاركها والدها لعبتها المفضلة، وهى لعبة تكوين البيت وكان يساعدها على التعلق بالكتابة بعد اللعب بالقراءة للعرائس.
وتحكى في حوار لها مع جريدة الأهرام أنها لم تشاهده يومًا متعصبًا، حتى في حواراته في التليفون، كانت القضايا الفكرية الكثيرة التي دخل فيها كانت خارج البيت ولكنه في البيت لا يجري مكالمة عمل، فهو في البيت الأب والزوج فقط، وكان مهتمًا بتفاصيل أبناءه رغم انشغاله بقضايا أدبية وفكرية عدة، حتى أنه كان يفرغ نفسه بمجرد عودة ابنته من المدرسة لكى تحكى له عن يومها، وكل جمعة كان يصحبها في جولة على النيل، وبعدها يتناولا الغداء سويًا، ثم يذهبان معًا إلى المكتبة الخضراء لقراءة كتب ويطلب منها مناقشتها فيما قرأت.
كانت علاقتى به خاصة جدا جدا ومختلفة عن كل ما يتوقعه الناس.. كان في تشابه كبير بينى وبينه، وكلما كبرت كان يشعر بالتشابه في الشكل والمضمون والطباع.. وكان الجميع يهابونه لكنه كان طفلًا طويلًا «كبير شوية» بالنسبة لى، تتذكر نسمة والدها الذي لم تمح السنوات عبير ذكراه في قلبها، وعن ذكريات مراهقتها تحكى نسمة في حوار «الأهرام»، كنت طفلة هادية ومثالية وخجولة وسألنى والدى في يوم أنت عمرك ما ذهبت لديسكو ولا شربتى سجاير؟، كان السؤال مفاجئًا لنسمة، ولكنه نصحها بضرورة تجربة كل شىء والانفتاح على الحياة، ونصحها أيضًا ألا تكتب وألا تتعذب مثله.
المصادر:
أرملة يوسف إدريس: تزوجنا بدون فرح ولا مهر ولا خطوبة، حوار: صلاح البيلي، مجلة كلام الناس.
نسمة يوسف إدريس: نصحني بأن أعيش حياتي بشغف وألا أكتب، حوار ناهد الكاشف، الأهرام.