رئيس التحرير
عصام كامل

يوميات السجين يوسف إدريس في سجن القلعة

يوسف ادريس
يوسف ادريس

«في الثالثة فجرًا، فوجئت بالباب يقرع، وإذا بي أمام ضابط الشرطة، شعره أبيض يحمل أمرًا باعتقالي موقعًا من زكريا محيي الدين، وزير الداخلية آنذاك، فتش المنزل ومكتبي، الذي كان مثالا للفوضى، كنت كلما فكرت في ترتيبه لم يكن الوقت يسعفني، وإذا بالصاغ عشوب، يستغرق ثلاث ساعات أخرى لترتيبه على نحو أثار إعجابي».. مشهد دراماتيكي، لم يكن سطرًا في رواية من وحي خيال كاتبها، إنما لحظات من واقع عاشه يوسف إدريس، الروائي والقصصي المرموق، تمهيدًا لانضمامه إلى قائمة المثقفين «رد السجون».


الاعتقال
عشرين خطابًا غراميًا، كتبها «إدريس» لعضوة انضمت إلى إحدى الجمعيات السرية، أحببها صاحب «البيضاء»، عجلت بوصوله إلى سجن القلعة يقول: «في شتاء ١٩٥٤، بدأت ثورة يوليو تضرب الحركة المناهضة لها، ولا سيما عقب توقيع معاهدة الجلاء بين جمال عبد الناصر والبريطانيين، وأنا كنت واحدًا ضمن هؤلاء المفكرين، الذين رفضوا هذه المعاهدة الجديدة وبشدة، كم هي سيئة للغاية، فإن كانت خيرًا للبلاد والعباد، لماذا رفضها سعد زغلول قبل ثلاثين عامًا من توقيعها؟! هنا تجلى الصراع بين المفكرين والسلطة، وازدادت مخاوفي من تحويل الثورة إلى مجرد انقلاب عسكري، يجهض الحركة الوطنية الشعبية، وهذا ما عبرت عنه في رواية الهجانة».. لكن يبدو أن المراسلات الغرامية أثبتت عليه تهمة انضمامه لأحد التنظيمات السرية.

الجرائد الألمانية والحلاوة الطحينية
في عنبر «ب» داخل قسم الأوردي، بالقرب من سجن أبو زعبل، وبين أتلال الجرائد الألمانية، قضى «يوسف» فترة اعتقاله التي استمرت ما يقرب من عام ونصف العام، بعدما ارتحل من مقر اعتقاله المؤقت في سجن القلعة بين الشيوعيين والإخوان والوفديين، يقول: «طيلة اعتقالي كان -التموين- الحلاوة الطحينية والطعمية الملفوفة في صفحات الجرائد الألمانية أيضًا، كنت أحبهما كثيرًا قبل المعتقل، لكن ظروف الاعتقال قادرة وحدها أن تبدل من حال لحال، فكانت النتيجة إني هجرتهما تمامًا ما تبقى من حياتي».

إضراب عن الطعام
في الحبسة وعلى مدى ثلاثة عشر شهرًا، قاد «إدريس» وحمزة البسيوني، حملات التمرد والعصيان، فكانا العقل المدبر لجميع الإضرابات داخل الزنازين، خاصة أنه وقع على عاتق يوسف مسئولية الرعاية الطبية للسجناء، ذات يومًا تعرض أحد النزلاء إلى وعكة صحية شديدة، وكان لا بد أن ينقل إلى مستشفى السجن، هنا قرر الرفيقان أن يتخذا قرارًا بالإضراب عن الطعام ومعهما مجموعة من السجناء المتضامنين، وبالفعل ضغطهما نقٌل المريض بعد ساعات قليلة إلى قصر العيني للعلاج.

سجن مصر
حكايات اعتقال يوسف إدريس، لم تنته عند هذا الحد، فعندما ذاع صيته ورفيقه حمزة، واكتشفت إدارة السجن أنهما وراء هذا الحراك المتمرد داخل العنبر، قررت نقلهما إلى محبس آخر، أكثر تشديدًا وإحكامًا، وكان هذه المرة «سجن مصر » حيث الإخوان المسلمين.

سجن مصر
سخرية «يوسف» من أوضاع الحبسة ملفته للنظر إذ يقول: «يا فرحة ما تمت، فبعد نجاح الإضراب في نقل السجين المريض إلى مستشفى قصر العيني للعلاج، أخبرونا أنه صدر بحقنا أمر بالإفراج عني وحمزة، لم نصدق أنفسنا من الفرحة حتى السجناء أخذوا يُقبلوننا، تعبيرًا عن فرحتهم لنا، لكن لا تمض ساعات حتى اكتشفنا أنه سيتم نقلنا إلى سجن مصر مع أعداد مهولة من الإخوان المسلمين تم اعتقالهم بعد حادث المنشية ومحاولة اغتيال عبد الناصر، باعتبارنا خطرًا على الشيوعيين من نزلاء الأوردي».

السل في سجن مصر
«انتشار الدرن» وهنا فصل جديد من المأساة المضحكة داخل المعتقل، يقول يوسف: «بمجرد أن وصلنا إلى سجن مصر، إذا بنا داخل زنزانة بها سبعة أشخاص معظمهم يبصقون دمًا، هنا لم نتخلَ أنا وحمزة عن دورنا التحريضي الذي اعتدنا أن نمارسه، أينما حللنا، وبالفعل حرضنا السجناء، حتى استجابت إدارة السجن، وأحضرت سيارة أشعة جماعية وتبين أن خمسة وستين مسجونًا مصابون بالسل، تم عزلهم ونقلهم إلى مستشفى الأمراض الصدرية بالهايكستب، ومنذ ذلك الحين بدأ إخراج السجناء لشم الهواء، وتحسنت نوعية الطعام «التموين».

الحبس الانفرادي
الفتاة ذات البشرة البيضاء، حبه الأول الذي جسدتها في رواية حملت اسمها، وصاحبة الخطابات الغرامية، كانت ونيسته في ليال الحبسة الموحشة، تهون عليه عناء الاعتقال وقسوة التعذيب يقول: "بعد اكتشاف السل، اتضح للمسئولين أني وحمزة وراء هذه القلاقل، وهنا بدأت الخطوات التأديبية، بداية من حلق رءوسنا بالموس، ومنعنا من الدخان، وعندما أضربنا عن الطعام، منعت عنها الماء، وضع كل منا في الحبس الانفرادي، لم نستسلم وبادر حمزة وأخذ ينقر بيديه على الحائط الفاصل بيني وبينه نقرات متتالية، وبدأت أنا أرد بمثلها، ولما كانت إدارة السجن تتعامل معنا كوننا مشاغبين، قررنا أن ننفض الخوف عن كاهلنا ونتعامل وفقًا للأمر الواقع».

٣٠ جلدة
«لأول مرة أشعر في هذه الظروف الحالكة، أن الإنسان يحوي طاقة هائلة من المقاومة، وأنه يمكن أن يقاوم بقدر من الصلابة لا يحلم به أحد أو يتخيله».. هكذا شعر يوسف بعد الجلدة السابعة على قدميه من أصل ثلاثين ضربة، صوبها تجاهه أربع «نوبتجية» من الحراس، بعد فعلته هو ورفيقه حمزة، -الذي كان له مثلهم- داخل حبسهما الانفرادي».

ولما كان «إدريس» و«البسيوني» نزلاء على غير العادة، رفضا أن ينطقا ما يمليه عليهما الحارس أثناء التعذيب من العبارات المهنية الشائعة داخل «السلخانة» على غرار «أنا مْرة»، «أنا ست» وهو الأمر الذي ضاعف من جرعة تأديبهما، وبمجرد الانتهاء من «التشريفة» -بلغة السجون- احتفل بهما باقي السجناء، على طريقتهم الخاصة، يقول: "وفي هذه الأثناء أبلغوني خبر الإفراج عني، لكني شككت في حقيقة القرار بعدما صدمت في المرة الأولى، ورغم ذلك بادرت وطالبت أن أرتدي بذلتي الرمادية التي أتيت بها وتحفظ عليها في أمانة السجن، ارتديتها وقد بدت على غير مناسبة بعدما نقص وزني وتغيرت هيئتي».

الإفراج وأزمة السودان
الطريق إلى قصر عابدين، لم يكن بهذه السهولة، فأثناء اعتقال يوسف إدريس، حدثت مستجدات على الساحة مصرية والسودانية، عقب مؤتمر باندونج، وكان من الضروري أن يذهب صلاح سالم، عضو مجلس قيادة الثورة، إلى السودان للتفاوض مع الجبهة الوطنية هناك بشأن الوحدة، فخطر في ذهنه أن يفرج عن عدد من الكتاب والفنانيين المعتقلين ويرسلهم إلى السودان كجزء من القوى الناعمة لمصر.

«كنا في حالة لا يرثى لها بعضنا يرتدي بيجاما مهلهلة، وبعضنا يضع الملابس في صرة من القماش، وجزء ثالث حافي القدمية»..هكذا يصف أوضاع المعتقلين أثناء الأفراح عنهم، الذين أخذتهم المباحث مباشرة إلى صلاح سالم في عابدين، وخلال أيام من خروجهم استقال صلاح سالم، وجاء زكريا محيي الدين خلفًا له، وهنا يستطرد إدريس :« كنت متوقع عودتي إلى المعتقل، ولكن ربنا ستر، وعودت إلى مهنتي الأساسية كمفتش في مكتب صحة الدرب الأحمر بوسط القاهرة».
الجريدة الرسمية