رئيس التحرير
عصام كامل

العقاد يكتب: تقويم الأخلاق وتربيتها بالصوم

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد

في عدد خاص من مجلة الهلال عن شهر رمضان المعظم عام 1955، كتب الأديب عباس محمود العقاد مقالا يتحدث فيه عن حكمة الصوم والعلاقة بين الصوم وتقوية الإرادة، قال فيه:


كان منا رجل من رجال الأعمال وسفير وصحفي، ومنا المسلمون والمسيحيون، وجرى حديث عن الصحة ونظام التغذية المفضل.
فقال رجل الأعمال: إنني تعودت بين حين وحين أن أصوم أسبوعا أو أسبوعين عن كل طعام غير السوائل، وأفضل السوائل عصير البرتقال.

وقال السفير: إنني أصوم فترة كهذه، وأكتفي فيها كل يوم بوجبة أو وجبتين من اللبن، وقلت إنني أعالج الصوم مرة كل أسبوع وأختار يوما من أيامه للصوم عن كل طعام غير السوائل، وأفضل منها مغلي البابونج وعصير الليمون الحلو أو عصير البرتقال، وقد أحتاج في أسبوع آخر إلى إسقاط وجبة من الوجبات.

وليس أكثر من أنواع الصيام هذه الأيام سواء كان لاجتناب السمنة لدى الجنس اللطيف أو حرصا على الرشاقة، أو لإصلاح المعدة، أو الصيام السياسي (الاحتجاج على معاملة أو رأي) أو الصيام للبخل والتوفير، أو صيام اليوجا وعادات المتصوفين والنساك.

إذن ليس زماننا زمان الإعراض عن الطعام كأنه عادة من عادات الأقدمين التي عفى عليها الدهر ـــ كما يقولون ـــ بل هو نريد فيه ألوان الصيام، ولا تنقص في علمنا من عصر قط استحق أن يسمى عصرا صياميا كالعصر الذي نحيا فيه.

والصيام على اختلاف أنواعه التي ذكرناها ليست هي كل الصيام الذي ينشغل به أبناء العصر الحاضر، فتلك جميعا أنواع جسدية تراد لحفظ الصحة أو حفظ الرشاقة والقوة وغيرها، وكثيرا من أنواع الصيام يدرسها أبناء العصر الحاضر ولا يطلق عليها وصف الأنواع الجسدية لأنها تراد لتربية الخلق ورياضة النفس، وتعويد الإنسان أن يملك عاداته كما يشاء، والصيام الذي فرضته الأديان أحق هذه الأنواع بالبحث عن دواعيه ومعانيه.

وحكمة الصيام في الأديان الكتابية هي للتكفير عن الخطايا والسيئات وتربية الأخلاق، أما الدين الإسلامي فهو الدين الوحيد الذي فرض كتابه الصيام فترة معروفة من الزمن.

ولا خلاف بين الأئمة في الحكمة المقصودة بهذه الفريضة وهي تقويم الأخلاق وتربيتها، وإن تعددت الأخلاق التي تذكر في هذا المقام، فقد يعلم صيام الغني الرحمة بالفقير، لكنه مقصد لا يشمل الأغنياء فقط، وكما ينبغي في كل فريضة عامة لا تختص بإنسان ولا بطائفة دون أخرى من المسلمين.

أما الخلق الذي يعم الأغنياء والفقراء، ولا يستفاد من فريضة عامة كما يستفاد من الصيام، فهو الإرادة، وهي ألزم الصفات لكل إنسان، ولا قوام للفضائل والفرائض جميعا بغير هذه الإرادة.

إذن الإرادة هي فضيلة الفضائل في الصيام، ومتى عرفت هذه الحكمة فآداب رمضان كلها محصورة في معناها، وليس من أدب رمضان أن يململ الصائم أو يتجهم كأنه مكره عليها مطيع لها بغير رضاه، وليس من أدب رمضان أن يقضي صيام نهاره في النوم تاركا الطعام، وليس من أدب رمضان أن يفرط الصائم في الطعام والشراب بعد غروب الشمس حتى موعد الإمساك، وليس من أدب رمضان صيام المريض معرضا نفسه للتهلكة إذا كانت لا تجب الفريضة عليه.

أدبه أدب الإرادة، وحكمته حكمة الإرادة، وليست الإرادة بالشيء اليسير في الدين، والخلق في الدين، وما الخلق إلا تبعات وتكاليف، ومن ملك الإرادة فإن زمام الخلق جميعا بين يديه.

وميزة رمضان أنه فريضة اجتماعية مع فرضه على آحاد المكلفين، فهو موعد معلوم من العام لترويض الجماعة على نظام واحد من المعيشة، وعلى نمط واحد من تغيير العادات، وليس أصلح لتربية الأمة من تعويدها هذه الأهمية للنظام ولتغيير العادات شهرا في كل سنة تتلاقى فيه على سنن واحدة في الطعام واليقظة والرقاد، وبما يستتبع ذلك من أهمية الجماعة كلها لهذا الشهر خلال العام.

الجريدة الرسمية