محمود أبو حبيب يكتب: ثمانية أعوام من عُمر الإمام
ثمانية أعوام مضت.. ولك أن تمضى بأيامها وأشهرها سيرًا بالفكر، وحَملًا على الجسد، وعَدًا للأنفاس، حتى ترى كم مضى من عُمر الإمام الأكبر شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، وكم بقيت المؤسسة الأزهرية شامخة في عهده.
سجل حافل بالعطاء والإنجازات، حمل خلالها الإمام الطيب رسالة الأزهر بفكر وعقل مستنير إلى العالم أجمع، ينشد السلام بين البشر، ويتقاسم هموم الإنسانية معهم، قاد خلالها المؤسسة الأزهرية والمرجعية السُنيِّة الأكبر في العالم لتصحيح صورة الإسلام المغلوطة في الشرق والغرب مما علق به من شوائب المتأسلمين، أصر خلالها ألا يترك الأزهر مكبلًا بلا حركة، أو منعزلًا عن عالمه الذي يعيش فيه دون إحداث تأثير إيجابى ينعم به.
إدراك الإمام الأكبر لدور الأزهر، هو الذي جعله يُبحر بسفينته في بحر تلاطمت فيه أمواج الصراعات الفكرية والعقائدية، وأصبح التخوين والتكفير هو الدرع الذي يختبئ خلفه كل تيار أراد أن ينتصر لفكره ومذهبه، حاملًا معه رسالة الإسلام الوسطية، بمنهج أزهرى منضبط، لم يكن الخصب هو مقصده في هذه الرحلة القاسية، بل كان هدفه الأماكن التي تعج بالتوترات، والتي تنظر إلى الدين الإسلامى بناءً على ما علق في أذهانهم من آراء وأفكار المتأسلمين، استطاع أن يُعيد الصورة الحقة في أذهان هؤلاء من خلال رسالة دعوية مشرقة، حضارية بكل تفاصيلها، إنسانية في كل معانيها، شاملة لكل البشرية، عادلة في انحيازها، موضوعية في حكمها، منصفة لا مجاملة فيها ولا مواربة.
حرص فضيلة الإمام أن يضع الأزهر في مكانته، وأن يُعيد إليه أركانه، وأن يستحدث آليات تواكب متغيرات العصر تُساعده في إيصال رسالة الأزهر، حيث حصل الأزهر في عهده على استقلالية في الدستور، وأعاد هيئة كبار العلماء بعد توقف دام أكثر من نصف قرن، وعمل على استحداث نموذج يجمع طرفى الدولة المصرية، تحت لواء الوطنية، وشعار المواطنة، فخرج للنور بيت العائلة المصرية، كنموذج يُحتذى به في العالم كله، ما دعا البعض من محبى السلام في العالم إلى تطبيقه في كثير من البقاع، تقاسم رئاسته مع قداسة البابا تواضروس كتعبير منه على تعانق الأديان، ومدى الأخوة التي تجمع بين قادتها.
لم يغب عن عقل فضيلة الإمام، التغيرات التي طرأت على عالمنا المعاصر، وما وصلت إليه التكنولوجيا، وولع الشاب بها، وخطورة امتلاك الشاب لها، وعبث بعض الجماعات بعقول الشباب من خلالها، حيث سعى لتصل الرسالة الأزهرية من خلال هذه الوسائل التكنولوجية، فاستحدث مرصد الأزهر لمواجهة التطرف، ليدخل في سباق تكنولوجى، مع دعاة التطرف والإرهاب والتخريب، ليمحى ما زرعوه في عقول شبابنا، من خلال رسائلهم عبر هذه الوسائل التكنولوجية، وعلى اتجاه آخر أنشأ مركزًا للفتوى الإلكترونية، تسهيلًا على من يريد الفتوى، حتى تستقيم حياة الناس بفتوى منضبطة مبنية على قواعد فقهية منزهة عن الغرض.
أصبح الأزهر في عهد فضيلة الإمام قبلة قاصدى ومحبى السلام في العالم، ما دفع رؤساء وملوك ومسئولين كبار في العديد من دول العالم، إلى زيارة الأزهر للقاء فضيلة الإمام الرمز الأكبر في العالم الإسلامى، مادين أيديهم لمزيد من التعاون، لم تكن زياراتهم مجرد استكمال لزيارة رسمية في ظل إجراءات بروتوكولية ودبلوماسية، وإنما كانت إيمانًا منهم بقيمة الأزهر وعمق رسالته الإنسانية ورمزية شيخه، الذي استطاع خلال مسيرته أن يُعيد الأنظار إلى دور الأزهر ومكانته.
لم يغب عن عقل وقلب فضيلة الإمام أيضًا القضايا الإنسانية، ولم يدخر جهدًا في سبيل إيجاد حلول لها، مع طائفة تستخدم نظرية الأرض المحروقة مع أشقائهم في الوطن هناك في بورما، حيث دعاهم لطاولة حوار مشتركة تجمع بينهم، محاولة من فضيلته لإيجاد بديل للسلاح والعنف الذي يسستأثر به فريق دون آخر، أراد بحكمته المعهودة ويده الممدودة ورسالته السامية، أن يجمع بينهم بالحوار كخطوة تليها خطوات، غير إن جهوده لم تلقَ دعمًا دوليًا حقوقيًا، في موقف مخزٍ لهذه المنظمات والقوى، ولكنه لم يقف دوره عند هذه الخطوة، وما أن علم بتهجيرهم من موطنهم وظلوا عالقين بين الحدود البورمية البنجلاديشية، إلا وهمَّ بعقد العزم لزيارتهم، مسبوقة بجنود مخلصين من أبنائه ليمدوهم بالزاد والمؤن، وما أن عزم على اللحاق بهم إلا وحال الإرهاب الغاشم دون استكمال رحلته، حيث أصر أن يُشارك أبناءه في بئر العبد أوجاعهم وآلامهم التي أدمت قلوب المصريين.
كما لم تكن القضايا المُعقدة كقضية القدس بمنأى عن فكر وعقل الإمام، ولم يدر ظهره يومًا لها، بل كان مبادرًا في إظهار موقفه انطلاقًا بما يفرضه عليه دينه، وضميره الإنسانى، دون النظر إلى اعتبارات أخرى، اتخذ حيالها مواقف مشرفة، فرفض لقاء نائب الرئيس الأمريكى على خلفية قرار أرعن من رئيسه، حيث لم يكتفِ بهذا بل نادى في مؤتمر عالمي لنُصرة القدس، بضرورة الرفض التام لهذا القرار، ودعا أشقاءه وأبناءه الفلسطينيين لمزيد من الصمود.
كل هذا جعل الإمام الأكبر شيخ الأزهر يتمتع بالقَبول والظهير الشعبى على جميع المستويات المحلية والإقليمية والدولية، ومن كل الطوائف والفئات، الرسمية منها وغير الرسمية، فتراه متربعًا على القلوب عند الآخر المختلف معنا في الدين والمذهب، ومستأثرًا لعقول المليار ونصف المليار مسلم المنتشرين في مشارق الأرض ومغاربها.
حقًا وعن جدارة استحق أن يُوصف بأنه إمام السلام، لأنه استطاع أن يُجسِّد مسيرة الأزهر التي تمتد لألف عام في ثمانية أعوام.