رئيس التحرير
عصام كامل

علم وعمل


ولأننا نسعي أن نكون أفضل في عالم أفضل، يشعر فيه كل إنسان بقيمة وجوده في الحياة، وما سيتركه من أثر بعد أن يفارقها، ولأن أثر الإنسان أطول من عمره، وهو المعني العميق الذي انشغل الكثير عن مضمونه في مجتمع مادي يسير بغدر مثل أمواج البحر، وأصبح مفهوم القيمة في الحياة والأثر بعدها ماديا مشوها لا يستحق الحياة من أجله، وانشغل الكثير عن أبنائهم بجمع المال من أجلهم كما يعتقدون، وترك الكثير مهنهم واشتغلوا بغيرها بحثا عن المال، وأصبح الحلم ماديا سرطانيا ينهش في نخاع الحياة ويطعن قلبُها، بعد أن أصبح الجهل سيد الموقف وأصبحت الشغلانة بديل المهنة!


لم أجد في هذا المقام أقوي من كلمتين، يجب أن نتدبر في معني وقيمة كل منهما وارتباطهما معا، إجابة أسئلة كثيرة مهمة ومحورية في العالم هما "علم وعمل"، كلمتان تتكون كل منهما من نفس الحروف مع اختلاف ترتيب حرف واحد، تجيب على أسئلة تتعدد فيها الكلمات وتختلف المعاني، لماذا تقدمت دولة وتخلفت أخرى؟ لماذا نجحت مؤسسة وفشلت أخرى؟ لماذا تقدمت جامعة وتأخرت أخرى؟ لماذا تميز شخص وأخفق آخر؟ وأسئلة كثيرة في مناحي متعددة إجابتها هي"علم وعمل"، بالطبع بعد التوفيق من الله سبحانه وتعالي!

أما العلم فهو صفة من صفات المولى عز وجل العليم البصير، وقد أكد العلي العظيم أن العلم لا نهاية له وصدق الله العظيم في قوله: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾، ذكَر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ما أعطى خَلقه من العلم إلا قليلًا بالنسبة إلى علمه جل وعلا؛ لأن ما أُعطيه الخلق من العلم بالنسبة إلى عِلم الخالق قليل جدا.

من هنا ندرك مشقة الساعي إلى العلم الحقيقي، وهو كالباحث على باب خروج داخل غرفة كبيرة جدا مظلمة، كل خطوة إنجاز، ولكن الإنجاز الحقيقي يتحقق عند الوصول إلى باب الغرفة، ونستطيع أن نقرأ لماذا ارتبطت صفة التواضع بالعلماء والنرجسية والغرور بالجهلاء، فالعالم غني المعرفة والإطلاع كلما قرأ وعلم اكتشف جهله فزاد تواضعه، وهكذا تكون أخلاق أهل العلم والإنصاف، الهدوء والسكينة والاستماع للآخر والترحيب بالنقد بل والسعي إليه والاعتقاد أن التعدد والتنوع هو سبب الاستقرار والبقاء..

أما الجاهل فيقيس علمه بمقدار تصفيق من حوله ونفاقهم له، فيزداد حماقة ورعونة على كل ناقد أو ناصح، ونظرة أهل الهوى والتعالُمِ لناصحيهم، هي كما تمثَّل بعضُهم قولَ الشاعر: لَو كلُّ كلبٍ عَوى ألقَمتَه حجَرًا * لأصبَح الصَّخرُ مِثقالٌ بِدينارِ!

والساعي إلى العلم لديه لهفة كبيرة في تطبيق علمه، وهو ما يجعل العلم يرتبط بالعمل، ودائما يسبقه، بل ومقدما عليه، فلا علم بلا عمل ولا عمل بلا علم، وعندما يكون العمل نتيجة علم، فهذا هو العلم النافع، وينتج عنه عمل صحيح يتحقق من ورائه خير ونهضة وتقدم واستقرار على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع، أما إذا كان العمل بطريقة أهل الهوي، دون علم حقيقي ومعرفة صحيحة، يصبح لعبا وَلَهْوا، يضيع معه الجهد والوقت والمال، ويعاني من ويلاته الفرد والأسرة والمجتمع، صفق له من صفق وهلّل له من هلل!

وبلغة بسيطة، لا يوجد شيء اسمه "العلم في الراس مش في الكراس"، فالعلم دائما وابدا في الكتاب (الكراس) وعندما يقرأ ويفهم، يصبح علما يحتفظ به العقل وينتفع به في العمل، ولا يوجد شيء اسمه خبرة السنين دون علم، فعدد السنوات لا يعطي الخبرة ولكن عدد التجارب التي يتم تطبيق العلم فيها عمليا هي ما يكسب الخبرةً، والخبرة التي لم تكتسب عن طريق العلم، هي خبرة لقيطة، ليس لها أب شرعي، ولا يستخرج لها شهادة ميلاد! اللهم ألهمنا حب العلم ورزق العمل!
الجريدة الرسمية