رئيس التحرير
عصام كامل

بيت القاضى


نشر لى هذا المقال من قبل بتاريخ 11 يونيو 2012، ورأيت أن أعيد نشره الآن بمناسبة الحدث "الكوميدى" المسمى "مليونية تطهير القضاء"..

كان والدى رحمه الله، يحكى لى دائما عن المكانة المرموقة التى تمتع بها منزل العائلة العتيق بحى الأزهر وسط سكان المنطقة، والذى تربى فيه هو ومن قبله والده وجده رحمهم الله جميعا، وقضيت به جزءا من طفولتى.

وقد كان البيت الوحيد فى المنطقة الذى يدخله الماء والكهرباء فى أواخر القرن التاسع عشر، كما حمل الشارع الذى يقع به البيت اسم عائلتنا لما كان لها من دور هام فى نشر الثقافة فى مصر فى هذه الحقبة، حيث كان الجد الأكبر لوالدى من أوائل الرجال الذين عملوا فى مجال الطباعة والنشر وعملت الأجيال التى تلته على تطوير هذه المهنة الجليلة، فأنشأ جدى العالم والأديب الأستاذ عبد اللطيف الخطيب المطبعة المصرية ومكتبتها عام 1924 م وغدت المطبعة فى عهده إحدى أهم مطابع الشرق الأوسط.

ويحكى لى رحمه الله، أن هذا البيت أصبح أكثر هيبة وأكبر شأنا يوم عُين عمه قاضيا، وهو المستشار محمود بك عبد اللطيف الخطيب الذى تدرج فى السلك القضائى حتى أصبح رئيسا لمحكمة الاستئناف.

يحكى لى والدى كيف كان سكان الحى البسطاء يطلقون على البيت لقب (بيت القاضى) ويجلون ساكنيه ويطرقون أبوابه أحيانا للفصل فى خصوماتهم، يحكى لى كيف كان القاضى دوما مقدرا ومهابا حتى أن لقب البكوية الذى كان يكتسبه القاضى بمجرد تعيينه هو اللقب الوحيد الذى درج العامة على استخدامه للتعامل مع القضاة حتى بعد إلغاء ثورة يوليو للألقاب تقديرا للقضاة واحتراما لهم، (كان ذلك بالطبع قبل أن تصبح الألقاب مجانية وتختلف معانيها بحيث يلقب الجبار بـ(الباشا) والمحنك بـ(المعلم) والمبتكِر بـ(الصايع)، أما عن لقب (هانم) فقد أصبح منذ عشرات السنوات الاسم الأكثر شيوعا بين الخادمات.

ويبدو أن هذا الخلط الجائر الذى نطلق به الألقاب قد امتد أيضا ليطال الأخلاق حتى أن مصطلحى (أخلاق الثورة) و(أخلاق الميدان) اللذين كنت أشرحهما مباهية بهما كل من لم يَشْرُف معى من الأصدقاء بالاعتصام فى الميدان، أصبحا اليوم مصطلحين كوميديين.

وكيف لا؟.. وقد بلغ الاستهزاء بقضائنا إلى الحد الذى يهتف فيه البعض ببطلان أحكامه وبسقوطه متهمين إياه بالفساد، لأن القاضى المحترم أحمد رفعت حكم بناء على الأوراق والأدلة المطروحة أمامه وفق ما يقتضيه ويلزمه ضميره المهنى ولم يحكم وفق أهوائه أو أهوائنا أو حتى علمه الشخصى، لأن القاضى يحظر عليه أن يفصل فى النزاع بعلمه الشخصى مهما بلغ مدى هذا العلم ملتزما بالمسطر فى الأوراق بين دفتى الدعوى المؤتمن عليها !

أليس الذى تهتفون ضده الآن هو نفسه القضاء المصرى الذى أنصفنا بحكم حظر تصدير الغاز المصرى إلى إسرائيل عام 2009 فى أوج سلطان النظام السابق ولم يخش فى الحق لومة لائم!!..

أليس هو نفسه القضاء المصرى الذى أُنصف الإخوان المسلمين بإشرافه النزيه على الانتخابات البرلمانية عام 2005 حتى إن النظام السابق اضطر إلى تعديل الدستور عام 2007 التعديل سيئ السمعة الذى أضاف بها المادة المثيرة للسخرية على مستوى كافة الفقهاء الدستوريين فى العالم، وهى المادة 76 مكرر، والتى كان أحد أهم أهدافها إقصاء القضاء عن الإشراف على الانتخابات ليتسنى للنظام تزوير الانتخابات فى 2010، ولو كان القضاء فاسداً كما يزعمون لما اضطر النظام السابق إلى ذلك.

أليس هذا هو نفسه القضاء المصرى الذى كنا نهتف له أمام اللجان الانتخابية فى 2005: "يا قضاة يا قضاة أنتم لينا بعد الله"!!..

اسألوا أنفسكم قبل أن تُسألوا، واتقوا الله فى قضاء مصر الذى يحمى شرعيتها الدستورية، ويعمل على إنفاذ سيادة القانون وإقرار الحق والعدل.
الجريدة الرسمية