جربت تكره أمك؟!
لا حاجة هنا لأي نظرية تشرح أي شيء، فلا جديد سيكون في الأمر، سوى مزيد من المعطيات والبراهين و"بما أن وإذن".. فالحكاية لا تحتاج إلى كل هذه التعقيدات، لا يجب التعامل معها بالأرقام والمعادلات والحسابات المعقدة الرتيبة، ولا أنتظر أن تضعها في جملة مفيدة، فأصدق الكلمات تخرج غير مرتبة، لأنها تخرج من القلب، لتجد متكئًا لها في قلب الآخرين.
نأتي للأمر الذي يحتاج إلى كل هذا.. ألا وهو مصر.. مصر التي كنت أظن يومًا أنها "أم الدنيا"، حتى كشف الفنان محمود حميدة، أن "أمك نايمة جوه في أوضة النوم".. مصر التي ما زلت أذكر هيئتي وأن أقف منتصبًا "زي الألف" في طابور الصباح خلف سور مدرستنا البعيدة، وأردد وراء زملاءٍ أكبر مني في المرحلة الدراسية "تحيا جمهورية مصر العربية"، أذكر أننا كنا نقولها بحماسة وصدق، فمصر وقتها كانت أمي السيدة البسيطة التي لا أعرف عنها سوى أنها أمي، وأحبها لأنني لا أتقن شيئًا سوى تقديم المحبة لها.
سنوات مرت، احتفظت خلالها بحماستي أثناء تحية العلم، لكن معدلات الصدق بدأت في التراجع، لم أكن أمتلك الأسباب الكافية – وقتها- لأبرر تراجعه، لكنه في كل الأحوال أصبح كبئرٍ قارب على الجفاف.
في المرحلة الابتدائية، كنت أحيانًا ألقي "كلمة الإذاعة" بمساعدة من والدي، متعه الله بالصحة والعافية وطول العمر، الذي يبدو أنه كان يريد أن يجد متسعًا لأفكاره، شهقة أخيرة يمنحها لروحه التي اغتالتها يد الذبول، لكنني في المرحلة الإعدادية تخليت عن الأمر، فوالدي اتجه لإحدى دول الخليج تحت مسمى "إعارة"، فما عاد يشاركني كتابة "كلمة الإذاعة"، ورحل إلى هناك وأغلق "ثقب الحرية" الذي كان يمرر هواءً نظيفًا إلى رئتي روحي.
انتهت المرحلة الإعدادية، وخرجت منها بمجموع يجعلني صالحا لدخول بوابة المدرسة الثانوية في "المركز"، مررت من البوابة في هدوء، لم يكن في الأمر جديد، اللهم إلا أن القائمين على العملية التعليمية في بلادي، كانوا يريدون زراعة روح الفرقة في داخلنا، فقرروا أن طلاب الثانوية يجب أن يرتدوا زيًا موحدًا، ما زلت أتذكره، قميصا أبيض وبنطلونا كحلي، وحذاءً أسود، وممنوع - إلا لمن يمتلك واسطة أو لسان طويل أو عدم رغبة في التعليم- الكوتشي.. وقد كان، التزمت بالزي المدرسي.
ثلاث سنوات مرت، واكتشفت بعدها أن حماسة "تحيا جمهورية مصر العربية.. 3 مرات" هى الأخرى لحقت بالعربة الأخيرة في قطار الراحلين، لم يعد يهمني الأمر، لم أكن من الأساس أهتم بشيء سوى أن أظل مبتعدًا عن الأنظار.
المرحلة الجامعية لم تكن مصر حاضرة في أي شيء، مرت كما تمر أعمدة الكهرباء أمام عينيك وأنت في قطار سريع، لا تستطيع إحصاءها، وإن حاولت ستصاب بالصداع المزمن طوال الرحلة.
عدم التحاقي بالخدمة العسكرية، يمكن أن يكون لعب دورًا في بقاء مصر داخل "خانة النسيان"، حتى جاءت الوظيفة، التي قررت أن أكمل حياتي في داخلها، كنت قد بدأت الكتابة، منذ سنوات قبل التخرج، لكنها تحولت، في لحظة لم أحسبها، إلى طريق حياة، قررت مغادرة "مصر الصغيرة"، لأقيم في قاهرة المعز، لا أذكر عدد المرات التي فكرت فيها في العودة للقرية، لا أذكر عدد الأيام التي ندمت خلالها على القرار، كما أنني لا أذكر مرة واحدة فكرت في الرحيل وبشكل نهائي عن مصر، لا أعلم ما الأسباب التي كانت تدفعني في عكس طريق "الخروج"، من الممكن ساعات التمشية الطويلة بسبب "الإفلاس الدائم"، التي جعلتني ألتحم كثيرًا بشوارعها كانت سبب المحبة "لله في لله" لمصر، من الممكن أنني شأني كشأن غالبية أبناء القرى لا يحبون الغربة، ولا يطيقونها، ومن الجائز أن عدم إتقاني الجيد للغة ثانية جعلني أبعد الأمر عن حيز تفكيري، لهذا بقيت!
الزواج كان لحظة المصارحة بأنني بالفعل لم أعد أمتلك أي حماس لــ"تحيا جمهورية مصر العربية"، فرغم أنني أصبحت من الذين ينطبق عليهم تعريف "الطبقة المتوسطة" لكنني اكتشفت أنني "ولا حاجة"، فالراتب الشهري لا يؤهلني سوى لـ"شقة إيجار جديد"، وأثاث بالتقسيط، وحياة كاملة بالتقسيط، من الطبيعي أن يسألني البعض ولماذا تزوجت من الأساس؟.. أنا شخصيًا لا أعلم، لكنني –وكعادتي- قررت تحت بند "بنت الحلال"، والحب، والسنين اللي بتعدي، فكان الزواج.
ابنة صغيرة لم تقفز فوق عتبة عامها الرابع، رفضت إحدى المدارس الحكومية، وأرجو التركيز على كلمة حكومية، أن تلتحق بها لأن أباها وأمها لا يتقنان الإنجليزية "زي الكتاب ما بيقول"، هنا كانت اللحظة الفاصلة، لم أشأ الاستعانة بـ"واسطة" لتمرير فشلي، وأن أتمكن من اتخاذ قرار بإلحاق ابنتي للمدرسة الحكومية إياها، لكن أصبح في روحي "جرح" غائر، و"أخذتها في نفسي".
الموقف الذي من الممكن أن يراه البعض عاديا و"بيحصل"، لا تزال آثاره واضحة على أرواح أسرتنا، فزوجتي تعاودها حالة البكاء، التي تملكت منها يومها، كلما مر الموقف على خاطرها، وأنا ما زلت أحمل غصة في الحلق من الطريقة التي خرجنا بها من مكتب المديرة التي أخبرتنا أننا "مش ولاد ناس"، وابنتي الصغيرة تمر الأيام، وفي لحظات صافية تردد "أنا مدخلتش مدرسة... عشان أنتَ وماما فشلتوا".
لنكن صرحاء.. من يحدث معه هذا الأمر ويبقى في قلبه ذرة محبة للبلد التي رفضت تعليم ابنه؟!
أنا هذا الشخص.. أمسكت بخيط محبتي لـ"مصر"، قلت "أنت مخطئ وتستحق العقاب، وبدأت في مراجعة لغتي الثانية والعمل على تحسينها"، لتهبط على رأسي، كما هبطت على رءوس كل المصريين، الأزمات الاقتصادية الأخيرة، وهنا كانت الكارثة، بدأت ألمح أشياءً كثيرة تختفي من ثلاجة شقتنا، بدأت أتابع محاولات زوجتي لتقليل الكميات التي تريد شراءها، بدأت أيضًا أجدني أكرر جملة "طيب مش ينفع تتأجل الحاجة دي لبكرة عشان الفلوس" في كل مكالمة ليلية أتلقى خلالها "طلبات البيت"، بدأت أتهرب من وعدي لابنتي بأنني سأشتري لها الحذاء في أول الشهر، وأن رحلتنا الشهرية للمكتبات سيتم تأجيلها للشهر المقبل بحجة "لا جديد في المكتبات يصلح للشراء"، بدأت أحرمها من الرحلة الأسبوعية لـ"كشري التحرير"، وأتجاهل سؤالها الساذج طوال أيام الأسبوع الأخير من كل شهر "أنت قبضت يا بابا؟".
بدأت ألمح زيادة في كمية جرعات المسكنات التي أتناولها، حتى لا أضطر لزيارة طبيب فيكتب لي "روشتة طويلة عريضة" لن أجد نصفها، وسأدفع سعر ما سأجده الضعف، بدأت أتابع الخط البياني لخلافاتي الأسرية، فوجدته "في الطالع.. زي الصاروخ".
أنا.. لا مشكلة شخصية تجمعني الآن ومصر، بالقطع أريدها أن تصبح "أم الدنيا.. وأد الدنيا كمان"، أحلم أن أراها دولة عظمى، لكن هل مصر التي لا تزال تحكمها الواسطة "من رغيف العيش حتى الوظيفة"، يمكن أن تصبح "أم الدنيا"؟
هل مصر التي أصبح معتادًا فيها أن تغفو على سعر سلعة ما وتصحو على سعر آخر لنفس السلعة من الممكن أن تكون "أد الدنيا"؟
هل مصر التي تنافس على المراكز الأولى في الفساد والتحرش والجريمة وسوء التعليم وسوء الخدمات والاختفاء القسري تستحق أن تكون "أم الدنيا"؟
هل مصر التي يتأخر فيها كل شيء عن ميعاده إلا "القهر" يأتي في موعده تريد أن تصبح "أم الدنيا"؟
هل مصر التي تزداد فيها معدلات من يدخلون تحت خط "الفقر المدقع" من الممكن أن تتحول بين غمضة عين وانتباهتها إلى "ست الدنيا"؟
الإحصاء: نصف سكان قرى الصعيد لا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية
هل مصر التي "خلعت ريس" وبعد سنوات خمس تترحم على أيامه من الجائز أن تكون "أم الدنيا"؟!هل مصر التي حتى وقتنا الحالي إنجازها الوحيد بعد ثورتين إلغاء العمل بالتوقيت الصيفي تحلم بالفعل أن تكون "أم الدنيا"؟
هناك مليون "هل" أخرى، لو انتظرنا قليلًا وامتلكنا شجاعة الإجابة عنها، سنجدنا لا نستحق ولا تستحق أي شيء سوى "بقاء القهر كما هو عليه.. وعلى المتضرر اللجوء إلى السماء".
أخيرًا.. أدرك أنني لا أمتلك القدرة على مراجعة أولي الأمر منا، فلم أخترهم من الأساس، إلى جانب معرفتي ويقيني الكامل أن كافة الطرق إليهم مغلقة، وإن فتحت إحداها لن أجد أمامي إلا إجابات مجهزة لأمثالي "أنتوا اللي عملتوا في البلد كده".. "استحملوا عشان نقدر نعيش".. "أنت احمد ربنا أنك مش سوري أو عراقى أو ليبي أو يمني"..."أنت أصلًا إيه جابك من بلدك".. "ما بنتك دخلت المدرسة وخلاص".. "وكمان عندك تلاجة".. "يا ابني استهدى بالله وروح".. أو "اتفضل معانا 5 دقائق يا أستاذ".