رئيس التحرير
عصام كامل

عندما يصبح الموت هو معنى الحياة


الذين سقطوا علوا.. الذين راحوا اعتلوا.. الذين ضحوا صعدوا.. الذين قاتلوا لم يقتلوا إنما حيوا عند ربهم.. الذين حملوا البنادق رفضوا الواقع المهين.. رفضوا الانضواء تحت راية اليأس والإحباط.. رفضوا الوقوف في صف الاستهانة والإهانة.. رفضوا الانصياع لأوامر المخربين.. رفضوا الموت الرخيص وحياة الاستسلام.. أرادوا المجد فصنعوه راية خفاقة.. أرادوا الأمل فغزلوه كفنًا للعلا والشهادة.


أما الذين اعتلوا منصات الخيانة فقد سقطوا.. والذين جاءوا بشاشات الرياء وهنوا.. الذين صادقوا الكذب ماتوا ميتة الكلاب الضالة.. الذين حملوا ميكروفونات الزيف سلموا واستسلموا.. الذين رفعوا راية الخراب دفنوا تحت ركام الكلام الرخيص.. الذين أرادوا حرير العمالة صنعوا لأنفسهم مقابر من أشواك وأخرى من جحيم ودنيا من الدنايا وحياة من الذل.. هذا هو الفرق بين من علوا ومن اعتلّوا!!

ما زلت أرى ابنى بطلا هناك.. فوق تبة من الصخر الفولاذى يختلط بها وتختلط به.. يتحول فجأة إلى جحيم يذيب كل متطاول ومعتد أثيم.. ما زلت أراه وسط نخبة من المقاتلين.. المناضلين.. المجاهدين.. لا يزال يقف أمامى منتصبًا.. متوحدًا مع سلاحه كالطود الشامخ.. ما زلت أراه مع رفاق يبغضون الكلام.. يبغضون الملام.. يكرهون التردد.. يعشقون الموت في سبيل الله.. وطريق الموت في سبيل الله معبّد بالصبر.. بالجرأة.. بالإقدام.. بإنكار الذات.. بحمية لا يعرف حدودها إلا الخالق.

ما زلت أراه هناك يتقدم في طريق الحياة الأبدية.. ينهض من وضع المقاتل إلى وضع المجاهد.. يصوب في سويداء قلب الغادر.. يصيب ويقتل.. ينهض مطاردًا الخونة، والغادرين، والمأجورين، مدافعًا عن دين.. عن أرض لا تلين.. عن مجد لا ينكسر.. عن أمل لا يموت.. عن حياة اخضوضبت بدماء المقاتلين.. عن سر الكون العظيم.. عن كلمة حق ويقين.. عن وطن صنع الفجر للعالمين.

كنا هنا مشغولين بفيلم التوك توك الهزيل بينما كانوا هناك يصنعون مجدًا عظيمًا.. كنا من فرط هواننا نناقش المباراة.. نحلل الألعاب.. نعيد باللقطة البطيئة كيف سجلنا الهدف.. وكان هناك يراقب الحدود.. يرقب كل متسلل عنيد.. يُسقط كل لحظة قتيلا.. يدافع عن المرمى المقدس.. عن الوطن الممتد.. عن رمال تحمل تاريخ أمة وصانت بين ذراتها حكايات أبناء آخرين.. كان ابني يصل الحاضر بالماضي فيصنع لنا غدًا عظيمًا.

كان ابني ورفاقه يحرسون الليل.. يحرسون ضوء القمر.. يحرسون ذرات الثرى.. يحرسون نسمة خريفية تزف بعض الشجر.. كانت عيونهم تمشط المكان.. تؤنس الجبال.. تجوب المحيط ومحيط المحيط.. لا يتركون شاردة تمضى دون تحقيق.. لا يتركون واردة دون تمحيص.. ما زلت أرى ابني وهو يتحرك صوب الخطر بقلب أسد وروح عصفور.. يضغط الزناد صونًا للعرض، وللشرف، وللإباء والكبرياء، وصونًا لأم أنجبته، وأب رعاه، وشقيق تولاه، وشعب لا يهزم، وفيه جيش هو مبتغاه.

عندما سقط الجسد المتعب.. عندما هوى السلاح من بين يديه.. عندما هدأت النيران.. عندما سرى الدم ليروي الأرض.. ساعتها كان ابنى صاعدًا إلى حيث أراد الله.. إلى مبتغاه.. إلى منتهاه.. إلى هواه.. إلى حياة أبدية خالدة لا زيف فيها، ولا يأس، لا كذب، وقبل هذا وذاك لا بيع فيها ولا شراء.. حيث هناك من اشتروا أنفسهم استشهادًا من أجل الحياة.
الجريدة الرسمية