حنظلة يحاكم أبومازن !
غرفة رئاسية ضخمة، مكتب فخم معلق، وراؤه لوحة كبيرة لـ "خريطة فلسطين".. كعادته وقف، يدير ظهره للعالم وينظر للبلاد، قابضًا على يديه وراء ظهره، ينتظر عودة طال انتظارها وانفراجًا لم يحن ميعاده بعد.
(حنظلة.. شخصية كاركاتيرية رسمها الفنان الفلسطيني ناجي العلي، تعتبر أيقونة للمقاومة وانتظار العودة للأرض، ويمثل طفل فلسطيني يبلغ من العمر 10 سنوات عندما ترك أرضه، ولن يزيد عمره حتى يستطيع العودة إلى وطنه).
يسمع يد تقبض على باب الغرفة، وتديره لينفتح على شخص سبعيني ذو شعر أبيض، يرتدي عوينات تتخذ من المربع شكلا لها، وبدلة تليق بسواد المساء وسكونه المطبق على الأجواء.. دخل الشخص وألقى بجسده فوق أقرب مقعد قابله ليستريح، فالإنهاك يبلغ منتهاه ويطبق على ملامح وجهه.. ولكن لم يستدر حنظلة لرؤيته، اكتفى بسماع صوت أنفاسه التي بالكاد يسحبها ويطلقها للأفق في ردة سريعة.
حنظلة: أهلا أبو مازن.. أم تفضل لقب سيادة الرئيس الفلسطينيي ؟
أبومازن: ماذا جاء بك الآن ؟
حنظلة: لا يهم، فلتعتبر أني أطمئن عليك أو على البلاد.. لكن قل لي ما سر هذا الإنهاك الواضح على ملامحك؟ هل بلغت من العمر أرذله ؟
أبو مازن: "فشرت" لسانك سليط كصانعك يا حنظلة، فقط عدت من سفري للقدس منذ دقائق ومنهك من إجهاد اليوم.
حنظلة: ومنذ متى كانت القدس سفرًا !
أبو مازن: "بحدة" ماذا تريد هذه الساعة.. قل ما عندك وأرحني !
حنظلة: اهدأ، عمرك لا يسمح لك بالحدة المفرطة، لكن ماذا كنت تفعل بالقدس.. ولم كل هذا السكون بالمدينة ؟
أبو مازن: كنت أؤدي واجب العزاء، وسكون المدينة ربما للحداد.
حنظلة: عزاء في من.. كفى الله الشر !
أبو مازن: شيمون بيريز.
حنظلة: أو صار الفلسطينيون يسمون أبناءهم على اسم قادة الكيان ؟
أبو مازن: لا بل بيريز رئيس دولة إسرائيل.
(يلتفت حنظلة لأول مرة منذ نكسة 1967، من هول صدمته، فيظهر احمرار وجهه واحتقانه).
حنظلة: أتعزي الصهاينة في صانع مجزرة قانا ! عضو الهاجاناه –الحركة المسلحة التي طردت الفلسطينيين من أرضهم في حرب النكبة- بدلا من أن تحمد الله على موته، ذهبت لعزاء صاحب مجزرة جينين والياسمينة ! أي خزي هذا يا رجل ؟
أبو مازن: لم يكبر عمرك بعد لتفهم أن عزائي دبلوماسي محض ! يجب أن أعزيهم وأبكي لهم ما فقدوه حتى أستطع الفوز بدولة فلسطينية.. أليست هذه أمنيتك !
حنظلة: دبلوماسية ! إذًا لماذا لا تعلن الحداد على كل شهيد يسقط بحجة السياسة، ولا تبني جيشًا منظمًا باسم الدولة، ولا تبكي أمهات الشهداء حتى ولو على استحياء باسم سياساتكم ؟ ولماذا لم يعز نتنياهو وشارون في استشهاد ياسر عرفات ؟ على حد علمي أنهم أقاموا أعراسهم على خبر رحيله.
أبو مازن: لن تفهم شيئًا، فاتك الكثير من الأحداث، فهناك الكثير من التنسيقات الأمنية التي تمنعني من فعل هذا، أريد الأرض بالسلام، وليس بالصواريخ والدماء، ألم تسأم من مشهد الدماء !
حنظلة: تلك الدماء أشرف من أرض تبنى بالإذعان ويرضخ دبلوماسيوها لتنسيقات لا تسعف إلا القاتل وتريق دم الشهيد.
أبو مازن: ولكني استطعت الفوز بحق إقامة دولة فلسطين في الأمم المتحدة، سيذكر لي التاريخ هذا.
حنظلة: لن يذكر التاريخ سوى من يعيد الأرض كاملة، وليس فقط من ينصب لها مقعد للإدانة والشجب.
أبو مازن: ألا يعجبك شيئًا على الإطلاق ! المقاومة لن تعيد شيئًا من فلسطين، ولن تعطيها شيئًا سوى سرادق العزاء ودماء الشهداء، أما المفاوضات والمباحثات أعادت حدود الـ 67 – دولة فلسطينية تشمل الضفة وغزة فقط -
حنظلة: (ساخرًا) برافو.. دولة من مقاطعتين، دولة مقسمة ويقيم عدوها في القلب بين الضفتين، فعلا إنه تكوين دولي لم يسمع به أحد من قبل! ولكن قل لي.. كيف ستزور صفد إذا ارتضيت فقط بالضفة وغزة.
أبو مازن: (متلعثمًا) صفد باقية ومرحلة استرجاعها لم تحن بعد.
(ينظر حنظلة إلى الأرض، فرأسه الذي كان يوليه صوب فلسطين، لم يعد باستطاعته إلا أن يُطأطِئ إلى الأسفل ويحملق في الفراغ)
حنظلة: وضعكم صار مخزيًا.. ليته كاتم الصوت الذي ابتلع ناجي العلي كان أخذني في طريقه قبل أن أشهد هذا اليوم.
أبو مازن: لن تفهم ما أعنيه من سياستي وتصرفاتي.
حنظلة: (بلكنة فلسطينية) ولا بدي أفهم.. سيادة الرئيس !
(يهم حنظلة بالتوجه نحو الباب للانصراف، ثم يلتفت كأنه نسي أن يقول شيئًا).
حنظلة: فقط أبلغ الشهداء أن يموتوا في صمت، ولا يزعجوا الساسة، وأيضًا أوقفوا بث أغنية (يا ظريف الطول) فلم يعد لها داع، ولا تفطر بزيت الزيتون والزعتر بعد الآن، حتى لا تصيبك رصاصة الحنين للبلاد الموجعة للقلب.. ونصيحة مني، أزل تلك الخريطة عن الحائط وارسم خطين زرقاوين متوازييــن وازرع في الوسط نجمة سداسية لداوود.. سلام.