رئيس التحرير
عصام كامل

الوزير الذي قال لا


كان قيمة تتحرك على الأرض، نورا يضيء لمن حوله، مثلا يحتذي في الوطنية، علما في طريق العلم، مقاتلا ضد الجهل والتخلف، صمودا في مواجهة اليأس والإحباط، شهد له العالم كله في مؤسساته العلمية بالنبوغ والإبداع والنضال من أجل الطفولة، حصل على تكريم مؤسسات دولية لا تعترف إلا بالقيم الإنسانية الشامخة، مصريا ولد، ومصريا عاش، ومصريا رحل في صمت.. إنه الأستاذ الدكتور العلامة حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم الأسبق.


كان رسالة طبية من أجل الطفولة، وقيمة إنسانية رفيعة القدر والمستوى، قبل أن يصل إلى محطة الوزارة عام ١٩٩١م.. قبل أن يهنأ بموقع رسمي في دولة تعرف قدره، رأى بأم عينيه كيف تسلل التطرف إلى المدارس، فكان المقاتل الأول لتحرير العملية التعليمية من الجهل، والتخلف، والإرهاب، قاد معركة ضارية ضد طيور الظلام فسادا، كان أو إرهابا.. حمل روحه على كفيه أيام كان النظام يداعب خيالات الإرهابيين، ويدير معهم حوار اقتسام السلطة.

كان الدكتور حسين كامل بهاء الدين واحدا من المؤمنين بقيمة العلم، عقد عدة مؤتمرات قومية للتعليم، وضع واحدا من أهم الكتب عن التعليم والمستقبل.. ترجم هذا الكتاب إلى كل لغات العالم، لأنه كان وثيقة علمية لا تزال تنبض حيوية وقيمة وقدرة على مواجهة التخلف، كانت بعض أجنحة السلطة تنام في عرين التطرف وتنعم مع الإرهابيين باتفاقات واتفاقيات، عندما كان هو وحده يواجه هذا الغول.

هددوه في حياته طوال أربعة عشر عاما.. رفض حراسة الأمن له، واكتفى بحراسه من أمن الوزارة، قال لى أكثر من مرة: لو دفعت حياتي ثمنا لحماية أبنائي من التلاميذ من نار التطرف فلن أبالي.. كان يصرخ في المؤتمرات والندوات والحوارات الصحفية، في المحافل الدولية والمحلية، يخاطب الجميع لمواجهة غول التطرف الذي تسرب بليل إلى مدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا، واعتبرها معركته الأولى دون أن يحسب حسابا أو يدقق فيما يمكن أن تؤدي إليه معركته، لقد كان هو الوحيد بين أقرانه الذي قال: لا دون خوف أو رهبة.

رحل حسين كامل بهاء الدين يوم الجمعة الماضية في صمت، في هدوء، وهو الذي عاش حياته صخبا علميا وحوارا سياسيا وصوتا عاليا من أجل الحق.. لقد كان الراحل العظيم نهما للقراءة، قبل أن يطل الصباح بنوره، يكون قد انتهى من قراءة الطبعة الأولى لكافة الصحف، لا يفرق بين قومية ومعارضة وخاصة، يتصل بك في السابعة صباحا، وبنفسه على تليفون منزلك، يوقظك ليناقشك.

"أمجد" ابنى الذي رحل عني عنوة ودون استئذان، كان لا يزال بالصف الثاني بالروضة بمدرسة النقراشي التجريبية، اتصل الوزير صباحا، وكنت لا أزال أغط في نوم عميق، رد أمجد وأجابه، دار حوار لعشر دقائق بين الوزير وطفلي، سأله الوزير عن مدرسته؟ وهل يعتدي المدرسون على التلاميذ؟ هل يدرس اليوم كاملا؟ وابني يجيبه بعفوية الطفل البرىء، استيقظت من نومي، واتصلت بالوزير، وكانت المفاجأة عندما أخبرني الوزير أنه اتصل بمدرسة أمجد وشكر لهم حسن معاملتهم وإيجابيتهم في العملية التعليمية.

قاد باقتدار مشروع تكنولوجيا المدارس، ونجح بامتياز في مواجهة الضرب بالمدارس، وظل طوال حياته رمزا مصريا عابرا للقارات، لم يكن بهاء الدين وزيرا محليا، ولا طبيبا إقليميا، كان عالميا في كل موقع وصل إليه، وكان صاحب رؤية منذ تجربة عبد الناصر، وظل فاعلا في حياته العلمية بعد خروجه من الوزارة، لقد كان يوم خروجه من الوزارة عيدا لكل متطرف وإرهابي، كان عيدا للإخوان وأعوانهم.

وبعد خروجه من الوزارة لم يخرج من الحياة.. ظل علما راقيا، وقيمة علمية تكرمه المؤسسات الدولية وتمنحه ما يستحقه، فهل نمنحه ما يستحقه بعد رحيله؟

إنني أتصور أن العالم الجليل الدكتور الهلالي الشربيني سيقدر للرجل أعماله الوطنية بإطلاق اسمه على مجمع مدارس يليق بما قدم، أو على قاعة مهمة بالوزارة، أما محافظة القاهرة فإنه سيكون شرفا لسكانها أن يحمل أحد شوارعها الكبيرة اسم حسين كامل بهاء الدين.
الجريدة الرسمية