رئيس التحرير
عصام كامل

عن أب له أجره


كانت الساعة تشير إلى العاشرة من مساء يوم التاسع من مايو عام 1995 حينما تلقيت اتصاله "تعال أنت والحاجة علشان أختك بتولد يا حسين"، هو صوت زوجها الذي كنت ألازمه طيلة يوم وقفة عرفات في خدمتها، متوقعين أن تحضر ساعة الوضع في أي وقت، لكن ابتسامتها لم تكن تفارقها ولا دعاباتها لزوجها ولي، رغم انتظارها آلام حدث له سعادته الخاصة عندها، أن ترى أمامها زهرتها الثالثة.


وصلت لأرى الكل مرتبكًا، تمامًا لا تفارق الحيرة من حولها، بعد أن وضعت طفلتها الثالثة الرائعة، شيء ما يحدث لا يعيه أحد غيرها، نطقت بالشهادتين بعد أن تركت وصيتها لزوجها "خلى بالك من البنات"، وفى صباح اليوم التالي استرد الخالق أمانته، تاركة ثلاثًا، أكبرهن أتمت عامها الرابع قبل أيام.

كان المشهد قاسيًا، رائعة العائلة خلقًا وسلوكًا وجمالًا تفارق الدنيا في قمة شبابها، دون أن تهنأ بزوجها وبناتها اللاتي ينتظرن منها الكثير، لكن استيعابها وحدها له كان وراء وصيتها لزوجها التي تعجب لها المحيطون بها"هاتعيشي وتربيهم وينعموا بك"، مقابل كلماتها القاطعة "البركة في أبوهم".

أودعها التراب أول أيام العيد ليتصدع بيت وتنهار سعادته، وتستمر الحياة، ثم تتوقف قليلًا أمام مشهد أكثر قسوة على الجميع، وفاة عم بناتها فاكهة العائلة "عبدالله" ليلة الأربعين لرحيلها، تاركًا زوجته وطفليه، ها هي ابتسامة جديدة تنطفئ داخل بيت لا يحتمل مزيدًا من الصدمات والكوارث.

كان للقدر لطفه، أن ينشأ الأطفال الخمسة بين أب وأم بطعم مختلف في ظروف متقلبة مرهونة بما يمليه الموت من شروط على الجميع، وأن تظهر روعة جدة وعمة تحملتا ما يفنى معه الكثير من آلام الصغار، كم من براعة للقدر أقصت معاناة بشر، لكن ليس دون تفكير منهم وتدبير من الله، هكذا الإنسان الحقيقي وقت المحن.

كانت دعابته لزوجته أن "ستات العيلة عندكم مخلصين على الرجالة"، في إشارة إلى حالات "الأرامل المعمرات" المتعددة بين فروع العائلة، فأنهى الموت نظرية الأعمار الافتراضية بحصد زوجته وشقيقه في قمة شبابهما، وكانت السنوات التالية كفيلة بإحياء سيرة "عبدالله" بين زهور العائلة ليدخل الفرحة والبسمة على الجميع ويكون أخًا ثالثًا للجميلات.

ولأن التدبير من عند الله مع بشر يفكرون في الخير والمستقبل لأنفسهم وغيرهم، مرت السنون متلاحقة يتأهب خلالها رب العائلة لمراحل متجددة من حياته، كلها كفاح وإصرار على أن يكون مصدر السعادة لمن حوله، قاد خلالها دفة الأمور ليصل الجميع إلى بر الأمان، داعمًا وناصحًا وموجهًا، لا تخل يومياته من حساب للنفس والغير.

الآن يبدأ مرحلة جديدة يظهر فيها مرفوع القامة كعادته، يصر على ألا تفارقه ابتسامته، لإدخال السعادة على من حوله، يذهب بابنته الكبرى خلال أيام إلى بيت زوجها ناصحًا إياه بتقوى الله فيها، بعد أن أتمت تعليمها الجامعي قبل عامين، ينتظر أن تلحق بها المهندسة الثانية خلال أيام إلى سوق العمل، وتتأهب المهندسة الثالثة لمستقبلها داعية المولى ألا تخترق التسريبات منظومة امتحاناتها الجامعية، بينما طفلا شقيقه الراحل أصبحا شابين يناطحان إياه طوله وينازعان الدنيا على مستقبليهما تحفهما دعوات أم صبورة.

كثيرون يتحدثون عن تضحيات النساء لصالح سعادة أبنائهن حال وفاة الأزواج، وكم من القصص تختبئ خلف جدران لا تُروى للناس، كسيرة الرائع المهندس فرج قطب الذي دخلت بيته شقيقتي الراحلة "هدى" قبل 21 سنة، وتركته بعد خمس سنوات يواجه مشقة الحفاظ على كيان اهتز بغيابها وصدمة رحيل شقيقه الخلوق بعدها بأيام، لكنه لم يسقط بإرادة رب البيت، وقبلها إرادة رب السموات والأرض.

وكثيرون لا يفهمون أن أبًا له أجره تحمل الغربة وحياة تفننت في القسوة عليه، يمكن أن يقوم مقام أبوين في غياب زوجته، يضرب بيد من حديد على من يهدد استقرار عائلته ويعلو بأفرادها فوق أمواج تغرق العاجزين وحدهم عن فهم معنى الحياة، هو نموذج حي يستحق الحياة.. والشكر والثناء والذِكر والتكريم.
الجريدة الرسمية