عم عبده الذي لا تعرفه الصحة
تظل خدمات الخط الساخن لدعم ونجدة المصريين الأكثر تأثيرًا في إنجاز احتياجاتهم الطارئة، لكن حينما يحولها روتين أو إهمال إلى نقمة على المواطنين، فلابد من إجراء يحمى حقوقهم، وأهمها الحق في الحياة.
صباح اليوم الأول من شهر رمضان الكريم استيقظت على خبر وفاة جاري "عم عبد الفضيل"، الخفير البسيط بأحد جراجات منطقة سكني بدائرة الزيتون، الذي طالما كان مصدرًا لحمايتنا وشعورنا بالأمان حينما كنا أطفالًا، لا يبخل على أحد منا وعائلاتنا بحماية أو خدمة، وعندما غلبه العمر وزادت لعنات الزمن لترسم ملامح مختلفة لجسده الفتي، كانت أمنياته لا تزيد على علاج حقيقي لأمراض أقعدته آخر سنوات عمره، وشقة بسيطة لزوجته وأولاده الذين لم يبخل على أحدهم بتعليم.
حتى هذه الحقوق كان يحدثني عنها ولا يتخذ إجراءات حقيقية معي لإنجاز شيء منها لدى مسئول، فقد كانت عزة نفسه تمنعه وقفة السؤال ولو طلبًا لحق تنهيه تأشيرة موظف هنا أو مدير هناك، هكذا عاش ومات كما أراد، بين أبنائه على فراشه.
ليلة استقبال شهر رمضان كان ابنا عم عبده، محمد وأحمد، يخطراني بإجراءاتهما لمحاولة إنقاذ أبيهما الذي حدد له الطبيب بعد تشخيص المرض، ضرورة إنقاذ حياته بدخوله غرفة رعاية مركزة عاجلة بتخصص الباطنة، وأنهما أجريا محاولات يائسة لإقناع من يردون على الخط الساخن لوزارة الصحة 137 بتوفير سرير رعاية له، لكن انسحاب المتحدثين إليهما والأسرة كان حلًا رسميًا في ساعات حرجة من استقبال الشهر الكريم، وعمر عم عبده.
حاول أحمد ومحمد إدخال أبيهما مستشفيات أهلية تخضع لجمعيات تجمع تبرعاتها بإعلانات مدفوعة أو عبر جماعات، وأخرى تتبع المجالس الطبية المتخصصة، وثالثة خاصة استثمارية، وكانت ردود مسئوليها إما الرفض بدعوى عدم وجود أسِرة أو اشتراط سداد الأُسرة مبالغ ضخمة تحت حساب العلاج لمجرد قبول دخول عم عبده إياها.
مرت الساعات عصيبة وكأن حكمة الرجل الكبير التي عاش بها هي ما اتفقت عليه مؤسسات العلاج الأهلي والحكومي والخاص في مصر، إن كرامة المريض البسيط في الموت على سريره في بيته بين أولاده، فلا خدمة حكومية تسعفه ولا ضمير إنساني يزحزح رأس المال باتجاه التنازل عن شيء من أرباحه، ولا إرادة لمؤسسات العلاج الأهلي بأموال المتبرعين للتضحية بجنيه واحد.
كان آذان فجر اليوم الأول من رمضان هو الأخير الذي استمع إليه عم عبده راقدًا يتعبد إلى الله بعينيه، وكانت الحياة خالية من وجوده مع مطلع الشمس ليريح منظومة القهر والحرمان والإهمال التي تتراجع أو تنعدم استحقاقات كثير من المصريين أمام القائمين عليها، والمفاجأة في التاسعة صباحًا أن يتلقى ابنه اتصالًا من الخط الساخن بتوفير سرير للمتوفى، والكلام لمحمد الذي صب غضبه ولعناته على خدمات متأخرة لمنظومة لا تعترف بفقير.
الدكتور أحمد عماد وزير الصحة قرأت له تصريحًا سابقا بأنه غير راضِ عن منظومة (137)، وسيتم إعادة هيكلتها تقنيًا، كما طالعت تصريحًا مماثلا للدكتور خالد وشاحي رئيس الإدارة المركزية للرعاية الحرجة والعاجلة بالوزارة بأن الخط الساخن يغطي 10 محافظات فقط تشمل 189 مستشفى، وأن الوزارة تستهدف تغطية 355 مستشفى قبل 31 ديسمبر 2015 في 27 محافظة.
لكن مشروع الخط الساخن بدأ بمناطق وفى أوقات مختلفة باردًا، وكأنه لا ينجز مهمته، رغم شهادتي في حالات عدة على دور القائمين عليه في إنجاز ما يطلبه مواطنون.
كما أن شعور مواطنين في كثير من الحالات بأن حقوقهم في علاج ذويهم بأقسام الرعاية المركزة المختلفة ربما تخضع لفرص تمتعهم بعلاقات مع مسئولين مؤثرين، وهو الإهمال بعينه، والفساد الذي لم نتخلص منه تمامًا في قطاع منوط بالقائمين عليه حماية حق المصريين في الحياة والعلاج، وطالما بقيا، سيموت آخرون بعد عم عبده رحمه الله، أو هم يموتون بالفعل ولا يعيرهم أحد اهتمامًا.