«أون تي في».. عندما يرحل التاريخ
هل ترحل مثل نسمة صيفية باردة؟ ..مثل زهرة ندية عصفت بها رياح خماسينية قاسية ؟ مثل ومضة ملهمة جاءت لتسافر فجأة في الافق البعيد؟.. هل اختفت اون تى فى رغم الوجود الظاهرى حتى الآن؟..
أصدر رجل الأعمال نجيب ساويرس بيانا وضع فيه أسباب إقدامه على بيع "أون تى في"، وأدلى بأكثر من تصريح حول ذات الأمر، ثم اختتم ذلك بمقال بأخبار اليوم حول أسباب ذلك، وفسر ما قام به وأمنياته للمالك الجديد بالنجاح في تجربة جديدة، غير أن كل ذلك لم يقدم تفسيرا وافيا لبيع واحدة من أهم الفضائيات المصرية بل والعربية على الإطلاق.
المتابع لمسيرة "أون تى في" يدرك أنه أمام واحدة من أقوي الأدوات الإعلامية في الآونة الأخيرة، عندما انطلقت لتحطم تابوهات قديمة ومهلهة ظلت لسنوات طويلة تحتكر سوق الأخبار، المدقق في التفاصيل سيرى واحدة من الصور المصرية المبهرة في الإعلام المصري، تؤكد من جديد أن صناعة الأخبار تغيرت على عتباتها، فلم يعد خبر الرئيس هو الرئيسى، وأصبح البطل هو الحدث، أينما وجد الحدث كانت كاميرات "أون تي في" هناك.
ولم يكن بالطبع هذا اللون الجديد مرضيا للسلطة في ذلك الوقت، فصناعة الأخبار المصورة ظلت نموذجا رسميا جامدا سرعان ما ذاب أمام ديناميكية القرار التحريري الذي قدمته "أون تى في".. على دربها حاولت قنوات أخرى أن تسير، غير أن النموذج الذي أصبح هاديا استمر في المقدمة، أصبحت "أون تي في" معملا شعبيا لصناعة خبر يرى الناس أنفسهم فيه، وأصبحت معملا لتفريخ القيادات الجديدة.
أنجبت "أون تى في" جيلا جديدا من المخرجين والمصورين والمعدين ومقدمي البرامج، وطرحت من خلال مطبخ صحفي متطور وجبة من المادة الخبرية، أصبح وجهة للمواطنين، وأصبح الريموت كنترول ينتقل منها إلى غيرها، ثم يعود وليس العكس.. أضحت "أون تي في" مصدر الأخبار الصادقة، ومنبع المعرفة الخبرية، وينبوع الحقيقة، وإطلالة الناس على ما يحدث في مصر.
في مواجهة هذا النجاح، وفي مواجهة الخروج عن الطابور وشريط القطار الموضوع سلفا، كانت الكلفة المادية والخسارة المالية هي الأقل، وارتفعت الكلفة المعنوية والسياسية التي واجهها مالكها المهندس نجيب ساويرس.. أعرف من زملاء لى عاصروا التجربة من بدايتها حجم الضغوط التي مارسها البعض عليهم، ولم يذكر لي هو واحدة منها، وأعرف من مصادر معلومات رسمية كيف كانت "أون تى في" سببا في خسائر ليست بالضرورة مادية تحملها الرجل.
ومشكلة نجيب ساويرس مع "أون تي في" تكمن في النموذج الجديد الخارج عن الصف، وليست في نجيب نفسه، ربما يكون تكوين ساويرس وقناعاته مشكلة أخرى لاتقل عن إشكالية الخروج عن النص، يميل نجيب إلى إنشاء مؤسسات إعلامية يحضر تكوينها ككيان جنيني يطمئن إلى عافيته، ثم يتعامل معه بعد ذلك كقارئ أو مشاهد، لا يتدخل أبدا، وهذه هي الكارثة الحقيقية في كل كائن إعلامي يرتبط به.
نجيب ليبرالي النزعة والقناعة، وتقوده قناعاته إلى مساحة المنطق دون تزيد، وبالتالي فهو لا يؤمن بفكرة التدخل الإداري في المشروع الإعلامي الخاص به، ويفصل بين الملكية والإدارة بشكل حاسم، وتتحكم فيه ليبراليته الفكرية، إزاء المنتج الذي يقدمه القائم بالاتصال، سواء كان مذيعا أو صحفيا مهما اختلف معه، ويعتبر الرسالة الإعلامية وليدا يملكه الإعلامي، ولا يحق له أن يغير قناعات القائمين على العمل الإعلامي لتتوافق مع رؤيته، وهنا مربط الفرس كما يقولون.
لا يصدق مسئول رسمي أو رجل أعمال أو مفكر أو كاتب أن علاقة نجيب بمؤسساته الإعلامية تنفصل فيها الملكية عن الإدارة بشكل قاطع، وبالتالي فإن عليه أن يدفع فاتورة أي خروج، حتى لو جاء هذا الخروج ضد قناعات نجيب شخصيا، ربما يقارن البعض بين مؤسسات يمتلكها رجال أعمال آخرين وطريقة إدارتها، ويخلطون بين هذا النموذج ونموذج ساويرس، وهو الأمر الذي كان يفرض على نجيب أن يخرج على الناس حاملا الكتب السماوية الثلاثة مقسما عليها أنه يملك ولا يدير!!
وأخيرا.. هل جاء قرار البيع لأن حجم الأعباء المادية والمعنوية أصبح لا يطاق، أم أن نجيب أصبح على قناعة أن أحدا لا يصدق أنه يملك ولا يدير؟.. هو أجاب على شق مهم ومعروف عن شخصيته، وهو أنه لا يعبأ كثيرا بفكرة الضغوط، وهو الأمر الذي أعلنه أكثر من مرة حتى أصبح شعاره الراغب في كتابته على قبره (أطال الله في عمره)، "يرقد هنا رجل لم يستطع أحد لى ذراعه".