رئيس التحرير
عصام كامل

ملعون أبوها مهنة


ما بين الفجر والشروق مساحة صبح ندية، يتسرب فيها النور الأبيض دون شمس إلى صفحة السماء، فتبدو لامعة صابحة، تبث في النفس أملا في يوم جديد. 


الأربعاء ٤ مايو لم يكن فجره فجرا عاديا.. كانت قوات الشرطة تنشر سياراتها المدرعة بدءا من ميدان عبد المنعم رياض وحتى مدخل شارع عبد الخالق ثروت.. من الناحية الأخرى كانت مدرعات وسيارات أفراد الشرطة تغلق المنفذ الثانى لعبد الخالق ثروت من شمبليون.

بات المثلث الذهبي.. "المحامون.. الصحفيون.. القضاة" تحت قبضة الشرطة.. مررت بسيارتى متجها إلى العجوزة حيث مقر عملي.. وصلت إلى المقر في دقائق معدودات.. كانت المعلومات المتواترة من أمام مقر نقابة الصحفيين لا تنبئ بخير.. أتوبيسات محملة بمواطنين شرفاء تحاصر الموقع.. قوات الشرطة تتضاعف أعدادها.. ضباط أمن عام ومباحث وعدد كبير من ضباط الأمن الوطنى توزع القوات وتشرف عليها.

عقدت اجتماعا بصالة تحرير فيتو مع زملائى الذين قرروا المشاركة في الجمعية العمومية التي ستعقد في المقر المحاصر، واتفقنا على مجموعة من المبادئ العامة.. لا هتافات معادية للنظام.. لا هتافات معادية لأى مؤسسة من مؤسسات الدولة.. حددنا أهدافنا في مواجهة الجريمة التي ارتكبتها وزارة الداخلية ضد نقابتنا.. قررنا التوجه إلى النقابة في مجموعات صغيرة دون استفزاز أى من رجال الشرطة المحاصرين لمقر نقابتنا.

سار كل شيء على ما يرام حتى وصلنا إلى الثكنة العسكرية في وسط القاهرة.. كان المشهد مخيفا، مرعبا، قلقا، سوداويا.. أيادٍ غليظة تدفعنا دفعا وتلقى بنا هنا وهناك.. قاموس مما لذ وطاب من كتاب عجائب ما فى الحيوانات وشتائم لم نسمع بها يدرك بواطنها وأسرارها السادة الضباط الحارسون للمواطنين الشرفاء المحاصرين لأصحاب القلم.. ممر ضيق لابد وأن تصل إليه حتى تمضى إلى مقر نقابتك.

على جانبى الممر رجال شداد، غلاظ، أصواتهم كتلك التى يتفنن مخرجو العنف فى اختيارها لتكون لحم ودم إبراهيم الأبيض.. وبدلا من أن يسرى الخوف فى عروقنا سرى التحدى والاستنفار.. سكن الغضب شرايين الجسد الصحفى.. فار الدم الحر فى قلوبنا.. مشهد تم إخراجه ببراعة لم يعهدها عبد الناصر ولا السادات ولا مبارك.. حتى محمد مرسى فشل فى ذلك، ولا أظن أن زملاءنا الراحلين عاشوه أيام الملكية والاحتلال الإنجليزي.

لم تدخل صحفية شابة أو أربعينية أو خمسينية أو حتى ستينية، إلا وقد نالت ما لم تنله في حياتها كلها من سباب لم تعف ألسنتهم عن ترديده وهم في أحضان ضباط شرطة، وعلى مقربة من أتوبيسات مختومة بلوجو "تحيا مصر".. وكيف تحيا وهي تحاصر أبناءها بالسنج والمطاوى.. كيف تحيا وهي تنتج أبشع ما فى الأنظمة السابقة ليكون صوتا رسميا وسهما شرطيا وسيفا أمنيا فى مواجهة القلم؟

خمسة عشر مترا من البلطجة والتشويه والتحقير والإهانة، كانت كفيلة بأن أنسى مساحة العقل التي طالبت زملائى التحلى بها.. جريمة بشعة بكل المقاييس.. جريمة ضد النظام وليست ضد الصحفيين والصحافة.. جريمة تشويه التجربة.. جريمة وصم النظام بالبلطجة.. جريمة إعادة إنتاج ما عفى عليه الزمن.. جريمة حقنت كل صحفى غيور على إنسانيته قبل مهنته أن يثور.. أن يرد الصاع صاعين.. هكذا كانت الجريمة الثانية لإشعال الوطن بنيران لن تهدأ بسهولة.

وصل بي الاستفزاز إلى رفضى إخراج كارنيه نقابة الصحفيين لجحافل الأمن التي طالبتنى بإخراجه.. أخرجت بطاقة الرقم القومى وفيها مسجل أن مهنتى صحفى.. قالوا لن تدخل.. قلت سأدخل.. أقسم بالله العظيم أنني تمنيت الموت قبل أن أرى ما رأيت وأنا من أنا.. أنا من سحلته قوات شرطة مبارك، ولساعات كنت أقاومهم.. أموت صامدا ولا أعيش كمدا.. تدخل ضابط كبير يرتدى حلة مدنية بشكل إنسانى كان نادرا ودخلت دون إبراز كارنيه النقابة.

دخلنا إلى النقابة لنستمع إلى حكايات التحرش اللفظي وغير اللفظى التي وجهت إلى الجميع رجالا ونساء.. كان الشباب يرددون الهتافات الوطنية.. هتافات الحرية.. هتافات الكلمة والقلم.. والمواطنون الشرفاء يرقصون "إستربتيز" على أنغام أغان كان لها في الوجدان صدى.. تسلم الأيادى.. لا أعرف كيف تسلم أيادى شرطة تحرس التجربة بالبلطجية.. كيف تسلم أيادى من يحاصرون دار القلم بهذا الجبروت؟.. وكيف تسلم أيادى جهاز أفلس فأنتج واحدة من صور العصر الحجرى يدافع بها عن جريمته؟

وتسربت أخبار الحصار إلى كل المؤسسات فكانت دافعا وحافزا وعاملا أساسيا في الحضور الكثيف.. استشعرت الجماعة الصحفية أن الخطر يتنامى وأن الدولة عازمة على استكمال مسيرة الحصار.. خرج الشباب من كل المؤسسات..جاءوا إلى دارهم التي دنستها قوى الشر ليقولوا لكل قوى الطغيان إننا نرفض كل ألوان التعسف والإرهاب.

الذين جاءوا وفى جعبتهم أطروحات لطريق وسط، نالوا نفس ما ناله من جاء غاضبا حانقا.. تساوى الجميع في الغضب.. دخلنا إلى اجتماع رؤساء التحرير، وأعترف أن الحوار كان راقيا وهادئا رغم حماقة الحصار.. اتفقنا على أننا جزء من النظام.. جددنا الثقة في مجلس النقابة.. طالبنا بإقالة وزير الداخلية ووضعنا خطة للتحرك.. وأعترف أيضا أنه لم يكن من بين ما اتفقنا عليه فكرة اعتذار الرئاسة؛ فكان ظهورها وطرحها مثيرا للشك والجلبة والجدال دون مبرر.

لم يكن الخروج من الثكنة العسكرية ومستنقع المواطنين الشرفاء سهلا.. كان لابد من خطط تضعها مع تحمل ما لا يطيق بشر حر تحمله.. الآلاف الذين حضروا كان هناك مثلهم قد آثروا العودة إلى بيوتهم أو مؤسساتهم تحت شعار "مفيش فايدة"، بينما ظلت أعداد غفيرة في مناطق محيطة تتابع معنا نحن المحاصرين كيف تمضي أمورنا بين مطرقة الأمن وسندان الشرفاء.

كان الخروج غير آمن.. خروجا إلى حيث المطاردات وقاموس الشتائم المحفوظ بين دفتى أمن هنا وأمن هناك.. منا من تعرض للاعتداء البدنى وكلنا تعرضنا لهجمات لفظية تصف أمهاتنا وآباءنا بما يليق بأباء كل من استقدموهم إلينا!!

خرجنا وفي قلوبنا ألم وشجن وندم.. خرجنا لنسأل من فعل ذلك.. ماذا سيقول للتاريخ غدا؟.. خرجنا وظلت الحقيقة محاصرة وتساؤلات تطيح بأي عقل متزن.. ماذا لو قصفت الأقلام؟.. صودرت الصحف؟.. كممت الأفواه؟.. هل يستقر الوطن؟..هل يصمت الجوعى ؟.. إننا أمام هذا المنطق المشوه نقول وباطمئنان «ملعون أبوها مهنة».. ونردد مع لطفى بوشناق.. «خدوا المناصب والمكاسب بس خلوا لنا الوطن».
الجريدة الرسمية