حكايتى مع ساويرس
التقيت مؤسسين ثلاثة في حياتي، أولهم زعيم حزب الأحرار ومؤسس أول صحيفة معارضة في التجربة التعددية الثانية، وأول زعيم للمعارضة بمجلس الشعب، وثانيهم صلاح قبضايا رئيس تحرير أول صحيفة معارضة، وثالثهم الصديق نجيب ساويرس صاحب فكرة فيتو ومؤسسها وداعمها، خاصة عندما حاصرته الدنيا وضاقت عليه وطاردته.. وما بين التجربة الأولى والأخيرة حياة كاملة تأرجحت فيها بين نصر وهزيمة.. بين نجاح وفشل.. بين ابتسامة رضا ولحظة عتاب على الزمن.
من قرية في قاع الريف المصري جئت.. أهلها بسطاء.. طيبون.. يعيشون على الفطرة، لم يكن لى سند ولا ظهر إلا أسرة مصرية بسيطة بذلت كل ما لديها من أجل ابنها.. وفي قاهرة المعز تخرجت في كلية الإعلام جامعة القاهرة.. كانت المدينة أوسع من أن أستوعب ما فيها.. طرقت أبوابا كثيرة كانت في معظمها موصدة إلا بابا وحيدا فتح لى الدنيا.. باب الراحل العظيم مصطفى كامل مراد.
تربيت في مدرسة الأحرار - أول صحيفة معارضة- عشت فيها محررا صغيرا.. كنت أعمل عشرين ساعة في اليوم لعلى أحفر لنفسى طريقا بين صحفيين كبار أخرجتهم مدرسة الأحرار، حتى وجدت ضالتى المنشودة.. فيها ترقيت معتمدا على اجتهادي.. لم أكن بين أقراني الأفضل، غير أنى كنت أكثرهم عشقا للصحافة.. شققت طريقا أتصور أن الحظ كان رفيقي حيث أتاح لي ما لم يتحه لغيري.
مضت سنوات العمر تأكل بعضها بعضا، وأنا لازلت متمسكا بمجموعة قيمية أتصورها نبراسى في الحياة حتى يومنا هذا، "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون".. إن الله لن يضيعنى.. قابلت صعابا واجتزت قفارا دون كلل أو ملل، محطات خسرت فيها الكثير ونلت منها ما لم أكن أتوقع.. تعلمت من مصطفى كامل مراد المعني الحقيقي لليبرالية.. كان رئيسا لحزب الأحرار ومؤسسه، ومؤسس أول صحيفة معارضة، وصاحب حلم أن يكون لكل قرية صحيفة.
كم من مواقف كنت فيها أكتب على نقيض ما يكتب رئيس الحزب دون أن يقهرني أو يطاردنى.. أذكر ذات مرة؛ كنا نقود حملة صحفية من العيار الثقيل ضد ممارسات الأمير ترك بن عبد العزيز في مصر، وكان وقتها الملف متخما بتعذيب مصريين وخدم واعتداءات لحرسه على البسطاء من المصريين وعلى ضباط شرطة، وذات يوم تأخر مقال مصطفى كامل مراد حتى الوقت الحرج للطباعة، وكنا قد أعددنا تحقيقا صحفيا و"مانشيت" ضد الأمير.
لم نكن نعلم أن مصطفى كامل مراد في ذات اللحظة بصحبة الأمير ضيفا عليه.. أرسل مقاله تحت عنوان "الأمير ترك بن عبد العزيز والخير اللذيذ".. سقط في يدى.. اتصلت به وتحدثت عن تأخر مقاله ثم دخلت في الموضوع.. قلت له إن مقاله ينشر بالصفحة الأولى ومانشيت الصحيفة ضد الأمير والصفحة الثالثة ضد الأمير، بينما مقاله مدحا في الأمير.. فاجأنى بكرم لم أكن أتوقعه عندما قال "أرجوك لا تمنع نشر مقالى.. انشره فهذا رأيى، أما رأى الصحفيين فهم أحرار فيه".. تعلمت ساعتها أن القوة هي أن تتحمل الرأي الآخر رغم قدرتك على منعه.
مضت سنوات العمل بين كر وفر ومطاردات أمنية، وقبض علىّ في الشارع ومصادرة أول كتاب لى، وفي كل مرة كان الزعيم مصطفى كامل مراد هو سندي ودرعى.. "يجري ورائى" في المحاكم ويحضر الجلسات ويدافع عني ويدفع الكفالات.. في قمة غضبه لم يكن يقترب من محاولة منعى أو مصادرة رأيى.. عملت مع نخبة من الزملاء في الأحرار كانوا مصابيح مضيئة في بلاط صاحبة الجلالة.. ساعدونى في تحمل مسئوليات ما بعد رحيل مصطفى كامل مراد.. كان أقربهم الصديق العزيز ودفعتى زكريا خضر.
كان مصطفى كامل مراد هو الأب المؤسس الأول.. ومن بعده كان المؤثر الثانى في حياتى.. الراحل العبقرى صلاح قبضايا؛ أبو الأحرار ومؤسسها صحفيا.. علمني مالم أكن أعلم.. دربني على الإدارة ومعه صارت تجربتي أكثر نضجا وقدم لى من خلاصة سنوات عمره ما هو أعظم من كل ميراث.. ترك بصماته في أعماقى صحفيا وإنسانيا وقيميا، وظل سندي الثانى بعد مراد.. أجمل ما علمنى ما كان يردده دوما "المحبطون لا يصنعون تاريخا.. تخلص منهم فورا لأنهم كالسرطان ينهش لحم أية تجربة جادة".
في الخامس من ديسمبر عام ٢٠٠٨، كنت على موعد مع القدر.. فارقنى عمري؛ عندما فقدت أغلى ما أملك أعز ما رزقنى الله.. في لحظة قهر سحيقة فقدت ابنى "أمجد"، وانقطعت صلتى بالحياة.. غصت في أحزان لم أر مثيلا لها.. لم أقرأها في كل صفحات التاريخ البشرى.. انطفأ نور الحياة ولم أعد أقوى على التماسك.. حمدت الله غير أنى لم أفق من صدمتى.
حاصرني أستاذى صلاح قبضايا عليه رحمة الله بكل ما يملك من إصرار وعزيمة وقدرة رهيبة لاجتذابى مرة أخرى.. كنت أعاود التواصل مع الموت أكثر من ارتباطى بالحياة.. اعترف؛ أنه قد أرهقنى القدر هذه المرة وأصبحت أقرب إلى العزلة.. أحاول بين الحين والآخر أن أتصنع معركة دون أن أكمل المشوار.. مشوار التعاطى مع الحياة.. فقدت ثمرة فؤادى.. لم أضحك من حينها مثلما كنت أضحك، ولم أحس نبضا كانت شراييني تستمده من ذلك الصبى الذي قرر فجأة أن يوصد خلفه باب الحياة، ويوصد أمامي باب الأمل.
مضت سنوات العمر "مكررة مملة"، حتى استقلتُ من الأحرار في يونيو عام ٢٠١١م، ولدي تصورات لا يشكل خطوطها إلا العزلة وانتظار قدر محتوم للقاء كثيرا ما حلمت به في عالم بلا حقد أو كراهية أو صراع.. والأهم دون فراق.
من رحم اليأس تولد حياة.. هكذا كان قدري حليما بى عندما التقيت صديقا كثيرا ما تجاذبنا أطراف الحديث في قضايا عامة وأخرى خاصة.. لم تكن بيننا مصالح ولا أشغال.. كانت تجمعنا هموم وأحلام واحدة لوطن أشهد أنه كان رغم ابتعاده عن السياسة مشغولا به.. فاجأنى مرة أخرى بمحاولة استعادتى للحياة.. كان هذا الصديق هو المهندس نجيب ساويرس الذي حدثني منذ سنوات قبل هذا التاريخ عن "تجربة صحفية" نصدرها معا غير أن القدر لم يكن قد اتخذ قراره بعد.
لم أكن صاحب الفكرة.. "فكرة فيتو".. كان هو صاحبها.. ولم أكن صاحب اختيار الاسم.. كان هو صاحبه.. كانت مفاجأة لي أن يتحول عنوان مقالى "فيتو" الذي كنت أكتبه طوال ستة عشر عاما بجريدة الأحرار؛ ليصبح تجربة متكاملة.. كان نجيب ولا يزال كريما معى.. اختار الاسم وساعة الصفر.. لم نتحدث في تفاصيل مادية.. تحدثنا فقط في الخط العام للصحيفة.. اختلفنا فكان كريما في خلافه، إذ لم يتصل يوما بصحفى بالجريدة ليوجهه أو يطلب منه التراجع.
اليومَ؛ مضت سنوات خمس على ميلاد تجربة بدأت حلما بين اثنين حتى أصبحت حياة لأكثر من مائتي صحفي شاب.. يرسمون ملامح مستقبلهم لا سند لهم إلا أقلامهم، ومؤسس يؤمن بهم وبحيويتهم وشبابهم وقدرتهم على المنافسة.. سنوات خمس لم تتغير مدرستى التي تعلمت فيها، فكان نجيب ولايزال ليبراليا خالصا وليس صاحب مال.. لم يسعَ لتقييد حريتنا ولم نشعر أنه صاحب رأس المال ونحن موظفون.. كل فرد في فيتو صاحب "ملك" كما يقولون.
الشهادة حق أمام الله.. لم يتصل بى نجيب ساويرس إلا ثلاث مرات في خمس سنوات، وكان في المرات الثلاث صاحب حق.. أولاها عندما أعد زميل موضوعا صحفيا تناول فيه الراحل اللواء عمر سليمان بشيء من التجنى، فقال لي: ليس من الفروسية أن تتناولوا رجلا قدم لبلاده الكثير، وهو بين يدي الله الآن.. الثانية عندما أعلن قادة الإخوان الحرب على فيتو، فاتصل يشد على أيادينا، أما الثالثة فكانت الأشد عنفا عندما نشرنا موضوعا صحفيا حول صورة الرسول.
لم يكن نجيب في القاهرة، وتابع الضجة التي صاحبت نشر الموضوع، وهو في أمريكا، ورغم أن الموضوع كان دفاعا عن رسول الله محمد صلي الله عليه وسلم، ونفيا قاطعا لأن تكون للرسول الكريم صورة يتناقلها شيعة إيران.. اتصل وكان غاضبا للغاية عندما قال: "فيما يخص الرسول والإسلام أنا أكثر تطرفا من أي مسلم".. اجتمع بعدها مجلس الإدارة وقرر إيقاف صدور الصحيفة لمدة شهر وإحالتى وعدد من الزملاء للتحقيق، والحمد لله أن برأتنا التحقيقات وعادت "فيتو" للنور.
مناوشات نجيب ساويرس معنا تحمل بعض "التريقة"، وقليلا من الاعتراض على العناوين دون أن يفرض علينا رأيا.. أذكر أن رئيس حزب خصص صحيفته للهجوم على نجيب، رغم أن أخباره وأخبار حزبه التي تنشر يوميا على بوابة فيتو الإلكترونية أكثر مما تنشره صحيفته، إلا أن نجيب لم يتصل بنا يوما ليمنعنا من متابعة أخبار حزبه أو لنتخذ موقفا سلبيا من أخباره.. هكذا كان كريما ولا يزال.
لا أنسى عندما حاصرته جماعة الإخوان وهم أصحاب السلطة.. طاردوه في ماله.. طاردوه في أعماله.. طاردوه في أهله.. وعندما وصلوا إلى أهله كاد نجيب أن ينحنى وهو الذي يقول دوما "أنا أتكسر.. لكن ما أنحنيش"..
أشهد أن قادة ورجال أعمال من الإخوان ضغطوا عليه لإغلاق فيتو، ولكنه أبى وتحمل الكثير بسببها دون أن تصلنا منه معلومة حول تلك الضغوط.. كنا نعرفها ونشفق عليه ونحن ماضون فيما اعتزمنا عليه وهو إسقاط حكم الكهنوت.. كنا أول صحيفة تعلن موقفها صراحة من جماعة الشر.
كثيرا ما كنت أفكر.. ليس لدى ما أخسره ولكن نجيب لديه الكثير الذي يفرض عليه الخوف.. في النهاية لم نتراجع وهو لم يعرف الخوف..
للمرة الألف أكون محظوظا، فألتقى نخبة من شباب استطاعوا في فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز السنوات الثلاث، إنشاء بوابتهم الإلكترونية ليكونوا الموقع رقم اثنين في مصر، وأصحاب صحيفة أسبوعية ذات تأثير كبير.. ويحققون أرقاما مذهلة وانفرادات يومية حتى أصبح لدينا جيل من شباب الصحفيين نطمئن على تجربتنا معهم لأنهم صانعوها.. وبعد أن كان "جراب" الزمان خاويا إلا من اليأس أصبحت وزملائى جزءا من "تجربة صحفية" تحاول أن تجد مكانا مرموقا لها بين الكثير من التجارب.. أصبنا أحيانا وأخطأنا حينا غير أن الأمل لايزال يراودنا في قدرتنا على تقديم عمل ينفع الناس..