فض اشتباك بين ثورتين
من المؤلم أن تجد فريقين اتفقا على ثورتين بموجب دستور 2014 الذي وافقا على مواده، يضربان باتفاقهما عرض الحائط ويدخلان في معركة خاسرة مع كل مناسبة ترد فيها سيرة أو ذكرى لثورة منهما، لصالح فريق ثالث اعتبر الأولى كفرا والثانية انقلابًا.
والواقع أن لكل من 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 أسبابًا لا ينكرها أحد، فالأولى ظلت مقدماتها مستمرة ومتكاثرة قبل أكثر من عقد كامل، لم تكن الاحتجاجات المطلبية لمنادين بالعيش وضحايا تزاوج رأس المال بالسطة، ببعيدين عن نفس طبقة المنادين بحقوقهم المدنية والسياسية، والمؤمنين باستحالة وقوع تغيير اجتماعي اقتصادي دون تغيير سياسي حقيقي.
أما الثانية، فظلت خلالها أسباب الأولى قائمة لتضيف الجماعة لها خطورة ما تذهب إليه الدولة من مستقبل مجهول في ظل حكم تنظيم الإخوان، بخلاف ما تضمنه من ممارسات عنف وتكفير ضد المخالفين للجماعة، وظهور نموذج اقتصادي جديد للرأسمالية التجارية بمصر، لا يختلف في أهدافه وأدواته عن الرأسمالية الطفيلية التي أنتجها عهد مبارك.
ولتكن كل الأسباب التي أدت لثورتين قد تجمعت أمامنا الآن؛ للحديث عن يناير جديدة أو يونيو ثانية مع اختلاف مدخل وتفسير كل طرف لما يعانيه المصريون من تأخر استحقاقات، إلا أن متغيرات داخلية وخارجية أصبحت تحكم فرص نجاح الدعوة لثورة ثالثة أو ما يشبهها الآن، وهي بالتأكيد استراحة لتأمل مشهد ملتبس علينا جميعا ولا يريد كثيرون الاعتراف بأسبابه ومظاهره وبينها:-
أولا: إن أحزاب وتحالفات ما قبل 25 يناير و30 يونيو تختلف عن حسابات قوى تبحث الآن عن فرص جني الحصاد بعد انتخابات نيابية تستعد بعدها لاقتناص مكاسب لحسابها عبر دور تشريعي ورقابي، ربما يكون مفاجأة للجميع، يفوق الخيال إذا ما قورن بما فعله برلمان 2005 بمصر بعد تعديلات دستور 1971 في 26 مارس 2007، كما أن مرحلة جني هذه القوى والتحالفات لهذا الحصاد تمتد إلى ما بعد انتخابات المجالس الشعبية المحلية التي ستكتب قانونها بنفسها تحت القبة.
ثانيا: إن مسيرة الاقتصاد المصري لم تتغير نتائجها لتحقق مردودا على المواطن العادي المؤمن بإمكانية الحصول على أمل أو فرصة بعد ثورتين، وسط تعقد أزمة تضرب أركان الدولة ومؤسساتها في مقتل، وهي الفساد الإداري الممنهج على المستويين الأعلى والأدنى، وما يوازيه من فساد بمؤسسات القطاع الخاص، لا نستبعد من مظاهره امتناع رجال أعمال ومستثمرين عن سداد المليارات من أموال الضرائب المستحقة على شركاتهم، وتسريح عمالة مؤقتة فقدت الأمل في استعادة حقوقها عبر تنظيمات نقابية أو عمالية قوية تدعمها.
ثالثا: ضعف وانهيار مؤسسات المجتمع المدني، بداية من الفرد والأسرة والمدرسة والجامعة والأحزاب والنقابات والمؤسسات الأهلية، في دعم خطوة الاحتجاج على سياسات حكومية، خاصة الاقتصادية منها، وتشتت جهود وتضارب مصالح الكثير منها جعل كياناتها أشبه بالعشش المبعثرة، لا ثقة فيما يصدر عنها أو يحضر من جهود أفرادها.
رابعًا: عن عمد أو غير عمد، غابت حالة ارتباط الإعلام والصحافة بالشارع المصري وأصبح التركيز على أزمات اقتصادية واجتماعية بعمق وتحليل دقيقين أقرب إلى الخيال، وابتعدت التغطية الفاعلة في مواجهة قصور أداء المسئولين التنفيذيين عن دعم ضحايا الفساد، ومعها انعدمت سيرة الاحتجاجات المطلبية لدى العقل الجمعي العام خلال سنوات ما بعد يناير وحتى الآن.
خامسا: لم تشهد المنطقة خوفًا مصريا من قبل المواطن البسيط على مستقبل الدولة واستقرارها، بقدر ما يعيشه المصريون الآن في عالم عربي - إسلامي - شرق أوسطي متقلبة قواه وتحالفاته، مغيبة دوله وجيوشه، متصاعدة جماعاته المسلحة ذات الأفكار الفاشية متعددة ومتعدية الجنسيات والحدود، وتلك خطورة تقبل نسب غير قليلة من المواطنين بحالها لحساب تجنيبها ويلاتها وتداعياتها.
سادسا: تظل حالة الاستقطاب والاستبعاد مسيطرة دون اتفاق على رؤية للمستقبل، وفي كل الأحوال يذهب محترفو الاستقطاب إلى الابتعاد عن فكرة الإصلاح لحساب مصالحهم في إبقاء الأوضاع على ما هي عليه، وهؤلاء يملكون أسلحة متعددة، بل إن كثيرين ممن كانوا بالميادين باتوا رموزا بمؤسساتهم الاقتصادية والإعلامية، وذهب قطاع منهم إلى السلطة التشريعية والتنفيذية عبر ممراتهم، وفريق استجاب لنداءات الجماعة في الخارج واختار لقمة العيش على حساب صراع لا طائل منه.
سابعا: انتظار فريق غير قليل لما يأمله من إنجازات تشريعية ورقابية لبرلمان ينعقد خلال ساعات، لا يشبه تماما برلمان 2010 الذي استحضر حرس الوطني القديم عظمة فساده في 2005، وأنهى أحمد عز وجود نظام حكم بأكمله بنتائج انتخابات ما قبل يناير مباشرة، هذا الفريق لديه شعور بأن فرصة البرلمان قائمة في اقتسامه السلطة مع الرئيس، رغم كل أسباب البطلان التي ربما تنهي وجوده في أقرب وقت.
ثامنا: عودة ثقة مؤسسات الدولة في الاقتصاد المصري والنظام السياسي باكتمال شكل مؤسسات الدولة، وهي حقيقة شبه مؤكدة يلزم نجاحها سعي البرلمان والرئيس معا لاستعادة دولة المؤسسات التي أهدرها نظام مبارك وبعده حكم الجماعة، ما يعني حضور تدفقات جديدة من الاستثمارات والمنح والمعونات والمشروعات المشتركة ومبادلات الديون، واستعادة مؤسسات المجتمع المدني التنموية والحقوقية معا، نشاطها في ظل قانون جديد متزن للعمل الأهلي الحر المسئول، وتلك مسألة تحتاج إرادة سياسية وشعبية ونيابية، توازيها جهود أكبر للقضاء على الفساد بكل صوره.
هنا فقط نستطيع فض الاشتباك بين أنصار ثورتين، اتفقا على نفس الأهداف وسعيا إلى نفس النتائج، بعد أن عاشا نفس الظروف السيئة التي لا تختلف معها أيام مبارك عن الإخوان، سوى في شكل وطبيعة نظام الحكم، مع بقاء المضمون أو الأسباب الحقيقية التي أدت لخروج ثورتين، اعترف بهما المؤيدون لدستور 2014، وسيدرك كل طرف، مؤسسات وأحزابا وحكومة وبرلمانا ورئيسا وقضاء، أن أسباب ثورة ثالثة بأيديهم إذا ما رفضوا إعادة بناء وطن وصياغة مستقبله بما يُرضي طموح من تستمر أسباب الثورة قائمة داخلهم، أو داخل بيوتهم ومجتمعاتهم.
إن الحديث عن اتفاق على موعد جديد لثورة جديدة مرهون بتحديد طبيعتها ومكانها ودور ومسئولية كل مشارك فيها، وأعتقد أنها فرصة لاختبار ثورية كل منا، فريق يناير وفريق يونيو وفريق المستقبل الذي يضمهما معا بعد إنجاز استحقاقات سياسية في خريطة طريق لن تكتمل إلا باستحقاقات اقتصادية واجتماعية وثقافية تالية عليها ومكملة ومتممة لها، مسئول عنها الآن شعب باختياراته وخياراته، وبرلمان بتشريعاته ورقابته على السلطة التنفيذية، ورئيس بصلاحياته وأحلامه الشخصية والوطنية لمستقبل بلاده، وقضاءُ بوصفه حكما عادلا محايدا بين السلطات، منتصرا لحقوق المواطنين وحرياتهم، ومحققا لغاية الثورتين في دولة العدل، ولو سعى آخرون لتقييدها بقانونهم الخاص.