رئيس التحرير
عصام كامل

زيارة إلى تجربة مهددة بالشيخوخة


عدة آلاف من الكيلومترات تفصل بين بكين والقاهرة، تقطعها الطائرة في أكثر من تسع ساعات من الطيران المتواصل، واثنتى عشرة ساعة عبر دبى، ساعات لا يقطع مللها إلا التدبر في عمق التجربة الصينية، هي المرة الأولى التي أزور فيها الصين، جميلة، بهية، شابة، تعمل ليلا ونهارًا، بلد الأرقام المذهلة، أنت في الصين مجرد رقم صغير للغاية لا تُرى بالعين المجردة.


وبكين عاصمة المليار إنسان لا تزال تناضل بين نظريتين: الأولى تشدك مع كونفوشيوس إلى الماضي الصيني بكل ما يحمله من عراقة وحضارة، أضاءت جنبات مظلمة من تاريخ البشرية، والثانية هي الانفتاح على المستقبل، بكل ما يحمل من آمال للإنسانية.. بنايات غربية شاهقة من الزجاج، يقطع تواصلها محاولات إثبات الذات ببناية على الطراز المعماري الصيني التقليدي، وقرى تراوح مكانها بين التعاطى مع الآخر، والبقاء ثابتة رغم إغراء الانفتاح.. تلك هي التجربة باختصار.

ورغم قصر الزيارة، فإن العين المجردة تستطيع أن تلمح هذا الصراع بجدارة: صراع لم ينس الماضي، ولم يغفل الحاضر، ولم يعط ظهره للمستقبل، بل أقبل عليه بكل ما يحمله من تراث إنساني عبقري، وفق حكمة قديمة تقول «إن التعليم هو الكنز الذي يذهب معك أينما كنت» ولأنهم آمنوا أن الفشل في التخطيط هو تخطيط للفشل، فقد اتسمت تجربتهم بمحاولات دءوبة من أجل النجاح.

إذا تحدثت عن الانغلاق؛ فإن الشواهد تبدو عكس ذلك، فالسيارات الأوروبية في الشوارع تؤكد المعنى التقليدى للانفتاح، وإذا ناقشتهم في منع تويتر وفيس بوك، قالوا لك: لدينا بدائل صينية نتواصل بها مع شعبنا، وإذا ناقشتهم في النموذج الغربى للحرية والديمقراطية، قالوا لك: الغرب ليس جنة الله في الأرض.. لديهم مشاكل، ولدينا مشاكل، وإذا فتحت معهم ملف حقوق الإنسان تحدثوا معك حول المثلث الحاكم للتجربة الصينية، في المواءمة بين التنمية والاستقرار والإصلاح، ومن ثم السيادة، وتأكيد الذات، والإسهام الحضارى الإنساني.

كل شيء يمكنك أن تناقشه هنا مع المسئولين، فقط اطرح استفهاماتك.. وسيجيبون عنها وفق ما يعتقدون ويفخرون، في صناعة الإنترنت حققوا أرقامًا مذهلة، في إصلاح المؤسسات الصحفية هم الأوائل بلا منازع، في تكنولوجيا الاتصال حققوا معجزة.

الحرارة في بكين تعبر من منطقة الصفر إلى ما تحته بست درجات، سرعة الرياح تدس الهواء البارد بين طيات ملابسك، حيث لا منجى ولا ملجأ إلا «كلسون مصرى أصيل» تحمل معى أعباء الرحلة؛ فعشقت الهوية من خلال «كلسون»!

الصينيون يواجهون موجة البرد بالدراجات البخارية، والدراجات العادية، و«كوفية» تلف العنق والأنف، مع تغطية نصف الوجه بقناع يحمي من التلوث الذي بلغ مداه.

نباتات خضراء مجهولة الهوية، مع قليل من الماء الساخن، وبعض الشعرية هي نوع من الشربة، لم أتدارك السؤال عن اسمه، المطبخ الصينى مملوء بالأنواع الغريبة والمدهشة، ليس من بينها الملح أو الدقيق، ربما كان الأرز بديلا لكل النشويات المتعارف عليها في منطقتنا، في السادسة صباحًا تشهد المواصلات العامة زحامًا من أجل الوصول إلى مواقع العمل.

مسئول ملف غرب آسيا وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية يتحدث بثقة حول المركز الثانى الذي حققته الصين على مستوى العالم، ويتحدث أيضًا عن التناقضات بين الريف والحضر في التجربة الصينية، عن التلوث، عن الخطة الخماسية التي خصصت لحل مشاكل الصين، ومفهوم التنمية الجديد، يتحدث عن التنمية «المتناسقة».. تنمية نظيفة وتعاطٍ أكثر إيجابية مع العولمة، وعدالة أصبحت ضرورة لصيرورة التجربة في الاتجاه الصحيح.

الطعام الصيني التقليدي في الشوارع والمطاعم، يشهد حضورًا كثيفًا، لا ينفى تلك الطوابير أمام ماكدونالدز.. ليس تناقضًا، فالصين كلها «زحمة» وكل شيء يشهد هذا الإقبال البشرى المذهل، غير أن هذا الزحام لا يهمل تلك التماثيل المنحوتة بين جنبات الشوارع، وفى الحواري، والميادين، لمسة جمالية يرسم ملامحها الإنسان مهما شكلت زحمته وزيادة أعداده، هنا لن تجد ورقة ملقاة على رصيف.

أسطح المنازل حدائق غناء، والكبارى العلوية زهور مزروعة في الهواء، أما تحتها فإنها تحولت إلى حدائق صغيرة توحى بانسجام جمالى بين كوبرى يقضي على الزحام دون أن يصدم ناظريك.

أعود إلى الأرقام المذهلة التي طرحها السيد دنغ لى مسئول ملف غرب آسيا وشمال أفريقيا: ٥٠ بالمائة يستخدمون الإنترنت، ٦٤٩ مليونا من بينهم ٥٥٧ مليونا يستخدمونه على الهواتف الذكية، مع نهايات هذا العام يصل الرقم إلى ٧٠٠ مليون، أما الجيل الرابع من الإنترنت فإنه لم يحقق سوى ١٠٠ مليون مستخدم!

الإعلام الجديد هو الرقم الصعب في الصين، هناك تنافس كبير على تمويله، والاستفادة من قدراته، في دعم التنمية الاقتصادية، يؤمن الصينيون بأن تغيير أنماط السلوك بوسائل الإعلام الجديدة أسرع وأكثر نجاحًا، البنية القانونية للاستثمار في الصين هي سبب تشجيع رءوس الأموال الأجنبية، وهى ذات السبب في عدم دخول الصين إلى بلادنا باستثمارات كبرى، يرون أننا لا نزال لم نضع بعد بنية قانونية مشجعة، حتى تنتقل الصين إلى ما يسمى «التعاون المركب»، وذلك بالاستثمار في المنطقة العربية، بعد أن اقتصرت الفترة الماضية على التجارة فقط.

أنواع الطعام الكثيرة على مائدة الإفطار بالفندق لم تغر الوفد الصحفى المصرى- السعودى، قليل منها نعرفه ونطمئن إليه على رأسها البيض المسلوق، وقليل من الجبن الغربى، نحن نعرف الغرب جيدًا، ونجهل الكثير من مفردات الطعام الشرقى، فاكهة متنوعة كانت بديلا جيدا، ومطمئنا، مع كثير من الشاى الأخضر الصيني، الذي كان هو أكثر الأصناف قربًا لنا بحكم الاستهلاك.

الصينيون بسطاء ومباشرون في طرحهم، رفضوا المشاركة كضيف شرف في معرض القاهرة الدولى للكتاب بسبب ضعف الميزانية، هكذا قال دنغ لى.. وأضاف: «لدينا عام الثقافة الصينية بمصر، وسنقدم برنامجًا احتفاليًا كبيرًا.. قال: تلاميذ الإعدادى لدينا يعرفون مصر، لأنهم يدرسون تاريخها، لدينا عرب وافدون للدراسة، بعد أن أثبتت تجربتنا مدى جودة التعليم الصيني».

أسواق الملابس تتشابه إلى حد كبير مع أسواقنا، كلها تبيع نفس الأنواع وبنفس الأسعار، الفارق فقط هو أن ما لدينا بضاعة مضروبة، سألنا مضيفنا عن سر البضاعة الصينية المضروبة في أسواقنا، فقال «المنتجات الصينية امتحان لأخلاق المستورد».. عبارة خرجت من الرجل لتختزل السر في حكمة.. فالمستورد المصرى هو الذي يحدد السعر، لدرجة أن أحد المستوردين طلب صناعة فانوس «بعُشر يوان» أي ما يعادل ١٢ قرشًا مصريًا.. صنعناه ووجد طريقه للسوق المصرية!!

ولكن ما هو الحل؟ الحل كما يراه المسئول الصينى في منظومة أخلاقية تحكم سوق الصناعة، وتحكم المستورد، فالبضاعة الصينية التي تباع في أسواق أوروبا تنافس المنتجات الأوروبية، لأن أخلاق المستورد الأوروبي والمعايير التي تضعها دول أوروبا تحول دون السقوط في مستنقع البضاعة المضروبة، أما مستوردونا فإن الله معنا مادامت الحكومة معهم!!

الشوارع هنا طوابير متراصة من السيارات، غير أنك لن ترى سيارة معطلة توقف المسيرة، لابد أن تخرج قبل موعدك بوقت كاف، لتصل في الوقت المحدد، السائقون هنا لم يصل إليهم اختراع «الغرزة».. انضباط مثالى، وإشارة المرور لها «شمخة» والسلطات هنا لها «شنة ورنة» أما الكلاكس فمن المحتمل أن يكون قد ألغى إلا فيما ندر.

وجود عربى على استحياء، قليل من الطلاب كثير من التجار، وبعض اليمنيين أقاموا واستقاموا حول مطاعم يمنية هي ملاذ العرب أجمعين، أما معسل سلوم فله وجود طاغ، ويساوى الحجر منه أكثر من خمسين جنيهًا، والمقبلون عليه كُثر، أما المدخنون فإنهم محاصرون في كل مكان، حيث لم تجد الفوضى لها مكانًا حتى الآن، رغم الزحمة التي تزيد كثيرًا عن زحمة الفنان أحمد عدوية.

والصينيون معتزون بعزلتهم -إذا سميتها عزلة- فخورون بانفتاحهم المحسوب بدقة، في مصانعهم يعزفون على وتر العمل المقدس، في مؤسساتهم، متواضعون، يتعاطون معك من أرضية الاشتراك الحضاري، يعتزون كثيرًا بمواقفهم من القضايا العربية، ودعمها الدائم، ويرون في اشتراكيتهم بديلا عن الغرب المتوحش، والأرقام دليلهم في الجدل الدائر منذ عقود طويلة، يرون أن لديهم مشاكل تحل عبر برامج الإصلاح الذاتية، وليس من خلال الذوبان في تجارب الآخرين.. ١٩٧٨ كانت بداية تجربتهم ولا يزال أمامهم طريق طويل لتغيير مفاهيم العالم حولهم، خاصة أن اشتراكيتهم ممزوجة ببعض ألوان الانفتاح الاقتصادى.

بعد سنوات القفز الاقتصادي، يبقى الجدل الدائر الآن حول ديمومة التجربة الاقتصادية، خاصة أن قرارات صدرت في بداياتها أصبح لها أثر عميق الآن على ديمومتها وقدرتها على التحدي، كان محرمًا على الأسرة الصينية إنجاب أكثر من طفل، ولم يستثن من هذا القرار إلا بعض الأقليات القومية، الآن يناقشون مد سن المعاش إلى ٦٥ سنة، بسبب قلة الإنجاب، يسمحون بإنجاب طفل ثان حرصًا على شباب التجربة، واستمرارها، واستقرارها.
الجريدة الرسمية