وهل يضير مصر قبولها بالبيان الروسي؟
قبل أسابيع وخلال زيارتي للولايات المتحدة، كان لقائي بمدير أحد أكبر مراكز الأبحاث السياسية والإستراتيجية التي يعتمد عليها البيت الأبيض في رسم السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وطرحت تساؤلي عليه: ما دامت الإدارة الأمريكية تعتبر حركة حماس "الإخوانية" إرهابية.. فلماذا لم تعتبر الجماعة الأم لها في مصر كذلك وتعاونت معها ودعمت وصولها إلى الحكم، رغم أن تاريخها مليء بالجرائم وعززت من وجود التكفيريين بسيناء؟
لم يعجز الرجل عن تقديم إجابة مباشرة ونقلت تعبيرات وجهه إليَّ شعورا بالخجل والخزي؛ لفشل دراسات وآراء مركزة "مدفوعة الأجر" للإدارة الأمريكية، في قراءة واقع مصري ربما يظل مغايرا لبلدان عربية أخرى لا تقترب منه سوى الشقيقة تونس.
وجاءت كلماته قاطعة "لقد رأت الإدارة الأمريكية الإخوان تقدم نفسها على أنها النموذج المعتدل لجماعات الإسلام السياسي، والأكثر تنظيما في مصر بين القوى المدنية بعد غياب مبارك، واكتسب تحالفها الانتخابي تأييدا من قوى معارضة للمخلوع، كما قدمت الجماعة تسهيلات لطائرات أمريكية بالتحليق فوق سيناء بعد حضور محمد مرسي للحكم، وكانت تنازلاته كبيرة لها، والبيت الأبيض لا يتعاون ولا يدعم إلا من يقدم التنازلات ويبدي مرونة أمام مصالحه".
من هنا نستطيع الإمساك بطرف خيط اللعبة داخل سيناء، التي أريد لها أن تظل الثلث الخالي في مصر بعد كامب ديفيد، حتى أن كل محاولة لعودة العبث بأمن وحدود الجبهة الشرقية دعمتها إجراءات الجماعة بنقل آلاف التكفيريين بأسلحتهم إلى الداخل المصري، في محاولة لاستنساخ تجربة الحرب متعددة الأطراف والجنسيات في سوريا، تلك الحرب التي قضت على ثورتها ونشرت نموذجا جديدا لعصابات القتل باسم الدين، وتخلق الآن عالما عربيا وإسلاميا جديدا لدولة خلافة عنوانها اللجوء لأوربا؛ هربا من الموت.
الرجل نطق بكلماته الكاشفة، انطباعا لي عن حالة "تصالح المصالح" بين دولة عظمى تسعى إلى السيطرة على العالم، ولو عبر تجنيد إدارتها لجماعات الحرب بالوكالة، التي استعانت بها ودعمتها في أفغانستان وغيرها، وبين جماعة تبحث لها عن دولة لا حدود لها ولا جنسية محددة لحاكمها ولا دستور لنظامها سوى أفكار مرشدها، كما أيقظ لدىَّ شعورا بأن ما حدث 30 يونيو 2013 جاء في موعده تماما، بعد عام من إعلان محمد مرسي وتهديده باحتمالات تعرض مصر للحرق حال إعلان منافسه فائزا في انتخابات الرئاسة، ليكون حاصل جمع تهديداته واتفاقات جماعته مع البيت الأبيض حاضرا على ألسنة البلتاجي وقيادات التنظيم في اعتصام رابعة "متى عدنا إلى الحكم توقف الإرهاب بسيناء".
وبالأمس، حضرت تصريحات الرئيس الروسي بوتين حول تعرض طائرة تقل سائحين روس بشرم الشيخ لحادث إرهابي قبل أيام، وسط فشل مصري صارخ في التعامل مع الحادث وتداعياته أو التعليق عليه، وكأن حكومة بلدنا تنتظر أن "يطبطب" علينا القطب الروسي الصديق، ويقول لنا "ماجاتش في كام سائح يا أصدقاء"، مع إعلانه الحرب على المسئولين عن استهداف الطائرة في أي مكان وتخصيص مكافأة مالية لمن يدلي بمعلومات عنهم.
الطريقة "البوتينية" في التعامل مع حقوق ضحايا الطائرة الروسية، جعلت التصريح بالرد الفوري على قوى الإرهاب في إطار حرب أطراف دولية بالمنطقة مركزة بسوريا، وربما تمتد خلال أشهر لمناطق أخرى بعد ما شهدته باريس، أقرب إلى المنطق بوجهة نظر المؤمنين بقوتهم المعززة بشفافية البيان والإفصاح عن معلومات لم تعتمد وجهة نظر غير معلنة لحكومة البلد، الذي شهدت أراضيه حادث سقوط الطائرة ذاته أو نتائج رسمية لتحقيقاته، لتترك الأزمة آثارها السلبية لدينا، فمواقف المسئولين تعكس شعورا واضحا بضعف تعاملهم مع تداعيات الحادث على أقل تقدير، التي لن تقتصر بالضرورة على ضرب الاقتصاد والتأثير على حركة السياحة، حتى أن إعلان بوتين بالأمس ضرب مكاسب وهمية للاقتصاد حققتها البورصة.
لا أتدخل في تحقيقات أو سيرة الحادث ذاته، لكن أرى أن حكومة مصر بدت أمام البيان الروسي وكأنها لا تملك دبلوماسية وتمثيلا ومتحدثين، رغم أن مسئوليها يصدعون رءوسنا ببياناتهم وقت تحقيق أي إنجاز جزئي بأي مسألة، ويتركون الصحفيين ينسبون معلوماتهم وأخبارهم إلى مصادر مجهلة وقت الأزمات الحقيقية ويدعمونها بتحليلات خبراء مصطنعين خارج دوائر صنع القرار.
وبدا إسراع روسيا بالتعليق على حادث طائرتها بسيناء ونتائجه، أمرا طبيعيا تماما، فأجهزتنا مشغولة بصراع بيني، والتنفيذيون في كل المؤسسات ذات الصلة ظهروا بلا رؤية أو اختفوا عمدا، حتى إعلامنا التقليدي لم يقدم تفسيرا متكاملا للمشهد برمته إلى المواطن، ولا ظهور لمستشار سياسي رئاسي واحد يتعامل مع ردود الأفعال تجاه الأزمة، بعد ابتعاد الدكتور مصطفى حجازي، الذي أبهرنا يوما بمؤتمراته الصحفية عالمية التنظيم والأداء.
إن البيان الروسي يطرح التساؤل الأهم على حكومة مصر الآن: هل يضيرنا الاعتراف بالبيان الروسي ولو صدر قبل تحقيقاتنا وهو يعتمد قضية مشتركة ألا وهي مواجهة جماعات الإرهاب؟.. ولماذا نتجاهل بيانا روسيًا عن إرهاب على أراضينا يقتل أبناءنا كل يوم وربما طال ضيوفنا الأجانب إن صحت تقديرات حكومة دولتهم؟
أعتقد أن البيان الروسي يعزز جدوى حديثنا مجددا عن أزمات مستمرة ومتزايدة بعد 30 يونيو، الإرهاب ونحن ضحايا له لا بد من دخولنا في تحالف مجتمعي وإقليمي ودولي منطقي لمواجهته، واستعادة خطط تطوير أدواتنا وأجهزتنا لمكافحته، والفساد وغياب الشفافية وبيروقراطية تقويض الحكم والحقوق الدستورية، وتلك أزمة امتدت آثار إهمالها إلى درجة تراجع دورنا في التعامل مع حادث الطائرة الروسية وتداعياته، حتى أصبحنا في موقف المتفرج على كارثة اكتفينا بعدها بمباهاة أنفسنا بسرعة نقل جثث الضحايا.
لا يعيبنا الاعتراف بفشل، ولن ينال من مستقبلنا إلا الاحتفاظ بالفاشلين، ولن ينتقص منا الاعتراف بأننا ضحايا إرهاب إقليمي ودولي تدفع أوربا وآسيا والمنطقة العربية فاتورته معنا، وتدعمه قوى معلومة تدير حربا عالمية جديدة بالوكالة، تستخدم فيها جماعات الإرهاب، واختارت لها الأرض والتوقيت ووضعت الخطط وتنوعت عملياتها، بالأمس سوريا وليبيا والعراق، والآن فرنسا ومصر، وغدا تتسع بدول أخرى.