أنا أرى وأسمع وأتكلم.. إذن أنا "إرهابي"
لكن حينما يحدثني مدرس في كلية الزراعة جامعة الأزهر، عن تعرضه لمحاولات تصفية على أيدي زملاء له من الطابور الخامس، وذلك بإبلاغ الأمن الوطني بأنه "إخوانجي"، لا لشيء سوى أنه كشف كثيرا من المخالفات المالية والإدارية في إسناد مشاريع الكلية ومزارعها، فيجب هنا أن أتوقف لـ "لفت" النظر.
كان الدكتور الشاب قد حدثني قبل نحو عام، عن مخالفة مالية تتعلق بإسناد عملية حفر بئر في مزرعة الكلية في مدينة السادات، وطلب مني إخطار أحد المسئولين الكلية، هاتفيا، بما تصوره بعيدا عن علمه، دون النشر، من باب "وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين".
تجاوب المسئول معي يومها تجاوبا حميدا، لكن اتضح للدكتور صديقي ولي شخصيا، أن تجاوبه كان بمثابة مسكّن مصطنع، لحين البحث عن طريقة لاستقطابه إلى المنظومة النفعية داخل الكلية.
الدكتور صديقي كان حسن النية، حتى أمس الأول، على الرغم من تكرار حدوث المخالفات المثبتة بفواتير "مضروبة"، وعروض أسعار وهمية لعمليات يتم ترسيتها على طرف بعينه، بأسعار متفق عليها مسبقا، لـ "تستيفها" في ملفات العمليات رسميا، أمام الجهات الرقابية.
وبدا واضحا لي وللدكتور أن المذكور فقد القدرة على منع هذه التجاوزات، والعجيب أنه ـ وفقا للدكتور ـ ليس ضالعا في اقتسام غنائم هذه المخالفات، لكن لأنه موعود من أفراد عصابة الطابور الخامس، بإقناع صانع القرار بالبقاء في منصبه.
وفي مخالفة "طازة"، تم الاتصال بالدكتور صديقي من طرف معلوم لديه، وأبلغه بضرورة الانصياع للقاء جبري مع رئيس "عصابة" الطابور الخامس، وإلا سيتم تلفيق تهمة "إخوانجي" له، بهدف إزاحته و"الخلاص منه".
هذه الحكاية المثبتة بالمستندات والوقائع الحية، واحدة من ملايين الحالات الموثقة في حوارات المصريين في شتى المجالات، حتى على المقاهي وفي "غيطان" الفلاحين، والحارات الشعبية في المدن، وحتى الجيران في الريف المصري ـ الذي كان أصيلا.
فلا يمكن حسم خلاف إلا بالتهديد بإلصاق هذه التهمة، على من يخالفنا الرأي، أو من يملك عينين عاديتين تريان المخالفات في "عز الضُهر"، أو أنف عادية تشتم رائحة الفساد العلني.
هذه المصيبة تكاد تستفحل لدرجة "الظاهرة"، في الهيئات الحكومية، والوزارات، وكل دواوين الحكومة، وهي تهمة تذكرني بما كان يحدث في بعض البلدان العربية، التي رزحت سنوات طويلة تحت وطأة الحكومات القمعية، مثل: العراق إبان حكم صدام حسين، وليبيا إبان حكم "المخبول"، واليمن تحت أمرة على عبد الله صالح وابنه، وسوريا في عهد "الأسدين".
كان الأب حين يختلف مع ابنه في العراق، يتهم أحدهما الآخر بأنه يسب صدام حسين، وهو ما كان يحدث أيضا في شأن الأخ العقيد "لا أعاد الله سيرته"، و"شاويش" اليمن ـ أجارنا الله من شروره، وهو ما استخدمه العلويون في سوريا منذ مذبحة حماة حتى موجة الربيع العربي.
هذه الواقعة تتكرر في مصر حاليا آلاف المرات يوميا، حيث أصبحت تطلق جزافا على مرمى السمع، حتى في شجار الصبية في الشوارع، وفي فصول الدراسة.
فالمدرس الذي يحاول ردع "مشاغبات الطلاب"، ربما يُتهم في اليوم التالي بأنه "إخوانجي"، وهي صفة لم تعد مرادفا للمتنطعين في أمور الدين، لكنها أصبحت تهمة تعني "مجرم" أو "إرهابي"، وهو اللفظ الذي رسخته كتيبة الإعلام الموجه، لدرجة قد تدمر كل طرق العودة إلى الخلف بحثا عن مراجعات فكرية، أو تصحيحية، كما تغلق باب التوبة في وجوه راغبي العودة إلى الصف الوطني، بعد الشعور بالذنب في حق النفس والدين والوطن.